كنت سفيرا ناجحا وخذلني الصبر
كريم فرمان
ان مهمة السفير جد صعبة وليس كما يتصور البعض انها مجرد وظيفة علاقات عامة وتلبية دعوات وزيارات او حضور...
السرعة التي قدم فيها الرئيس المكلف ـــ وحسنا فعل ـــ إلى رئيس الجمهورية تشكيلة حكومة تصريف الأعمال معدلة قليلا، قد تنبئ بتأخير، لا بتسريع، في تشكيل الحكومة، فقرر وضع الكرة في ملعب الرئيس عون من اللحظة الأولى. هذه الحكومة الحالية، أكانت قائمة بكامل صلاحياتها أم مستقيلة تصرف الأعمال، ليست جديرة بالبقاء لمواكبة رحيل العهد، ولا مؤهلة لتحمل مسؤولية الشرعية في حال حصل شغور رئاسي.
الأمر لا يتعلق برئيسها وبمستوى وزرائها، وبينهم من يتسم بالجدية والنشاط والأخلاق، إنما بتركيبتها السياسية الجانـحة نحو محور الممانعة رغم اعتدال رئيسها. لذا تحتاج البلاد "حكومة احتياط" جديدة بوزرائها وتوازناتـها الوطنية وتداول حقائبها، لا رتق هذه الحكومة وترميمها. لسنا من مستخدمي الحكومات المستعملة. لو لم نكن في ظرف انتقالي ومصيري في آن معا، لهانت الأمور. لكن كل يوم يحمل تطورات وأحداثا تؤثر على مصير وحدة لبنان.
إذا كنا عاجزين عن تأليف حكومة جديدة وعن تكوين أكثرية نيابية ثابتة، وعن انتخاب رئيس جمهورية، ماذا يبقى إذن من النظام الديمقراطي ووحدة الكيان اللبناني وصيغة التعايش والدولة المركزية؟ "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل". محاولة تعويم الحكومة المستقيلة دليل جديد نعطيه لأنفسنا وللعالم يــثبت أن لبنان الحالي تحول دولة فاشلة. نحن نعيش أزمة وجود وشراكة أكثر من أزمة نظام وإصلاحات. لقد تعاقب الشعب والمنظومة الحاكمة والقوى السياسية على هدر جميع الفرص المنقذة التي توفرت للبنان: من القرارات الدولية و"إعلان بعبدا"، مرورا "بالثورة" والإصلاحات، إلى الانتخابات النيابية والمبادرات العربية والدولية. بنيان عصي على الإنقاذ من دون إعادة هندسته. الوحدة اللبنانية صارت كانتونا خاصا متعدد الطوائف وعابر المناطق يختصر لبنان الكبير.
أنى للوحدة المرتجاة أن تتحقق وقد دكوا جميع مقوماتها الأساسية وأحلوا مكانها عناصر الافتراق؟ إذا لم تكن الوحدة أمامنا فلن نجدها وراءنا. نحن شعب مختصم على اليوم والقرن، ومختلف على تحديد أعدائه وأصدقائه، على كيان أمته وهويتها، على دستور بلاده ودورها، على متن الدولة وهامش الطوائف، على حدود الوطن جنوبا وشرقا وشمالا وغربا، على الحـياد والانحياز، على الشراب والمأكل، على العنب عنقودا حلالا في الدالية وكأسا حراما على الطاولة، على حجاب يحتجز الـمحيا وسفور يسيل الجسد، على حرية الإنسان وحقوقه وميوله الحميمة.
جميع هذه الخلافات تحضر لدى كل لقاء أو استحقاق أو حكومة ونغلفها بشروط سياسية. قد تجد قضايا الـمنطقة والكون حلا، ولا نستقر في لبنان على حل لإشكاليات وجودنا. صارت لدى الجسم اللبناني حساسية تجاه الحلول البناءة لأن بعض مكوناته يخفي حلولا تدميرية. لقد تفجرت دولة لبنان قبل تفجير مرفأ بيروت؛ وهنا تكمن أسباب العجز وأزمة تشكيل الحكومات. راحت مئة سنة وبقيت مئة يوم.
هذه الوقائع الخطيرة تكفي لحث المؤمنين باستعادة لبنان على منع سيطرة محور الممانعة على الحكومة العتيدة، فيشاركون في تشكيلة جديدة تحترم المداورة الشاملة في الحقائب وعلى أساس بيان وزاري سيادي. وحين تمنى البطريرك الماروني، الأحد الماضي، على القوى السيادية المشاركة في الحكومة، ربط ذلك بأن "يشكل الرئيس المكلف حكومة على مستوى الأحداث، تعزز الشرعية والنزعة السيادية والاستقلالية في البلاد وتجاه الخارج، ولا يكون بيانها الوزاري نسخة عن بيانات سابقة بقيت حبرا على ورق"، لم يقل لهم: "فوتوا كيفما كان"...
ما يبرر الامتناع عن المشاركة في الحكومة هو أن تكون لدى الممتنعين معلومات وثيقة عن تحولات سلمية أو عسكرية قريبة من شأنها أن تقلب الأوضاع اللبنانية رأسا على عقب، فينتخب رئيس جمهورية سيادي بامتياز، وينزع سلاح حزب الله، وتنفذ القرارات الدولية بدقة، لاسيما الــــ 1559 إلخ... حينئذ، حذار المشاركة، ولنردد مع المسيح: "دعوا الموتى يدفنون موتاهم". أما إذا كانت القوى السيادية لا تملك هذه المعطيات، فالامتناع عن المشاركة في "حكومة الاحتياط" خطأ، ولا يكون الخطأ الأول.
البعض ينظر إلى الحكومة، قيد التأليف، على أنها حكومة العهد الأخيرة، والبعض الآخر كأنها حكومة العهد الأولى، فيما قد تكون حكومة ما بعد العهد؛ أي "مجلس إدارة الجمهورية" في حال اكتمل الشغور الرئاسي. حرة القوى السيادية أن تتخذ الموقف الذي تراه مناسبا وتتحمل مسؤوليته تجاه الشعب والوطن. امتناع هذه القوى عن المشاركة في الحكومة ينطلق من منطق أنها، وقد عارضت منذ أكثر من أربع سنوات، لن تشارك اليوم والعهد على أفول. لكن المشاركة لا تعني الموالاة ولا تغطية فشل العهد السافر ولا التخلي عن المعارضة، إنما المشاركة في الشرعية ومنع استئثار جبهة الممانعة بها. إذ كيف نطالب بإنهاء دويلة حزب الله ونترك لهم الدولة اللبنانية؟
في جميع الأحوال، إن المعارضة سياسيا وإعلاميا ـــ على غرار ما حصل تجاه الحكومات السابقة ـــ لا تكفي هذه المرة. لا يجوز أن يسقط لبنان نهائيا ضحية تبادل المواقف بين الممانعين والممتنعين. إذا لم تتألف حكومة سيتألف لبنان جديد، ولا أحد يستطيع التنبؤ بجنس لبنان الجديد وشكله. الانهيار الحاصل يستدعي أن تنتقل المعارضة إلى المواجهة والسير في ثورة سياسية، بيضاء أو غير بيضاء، مغايرة في قيادتـها وطروحاتها وسلوكها وصمودها عما رأيناه من علك ولعق ولغو ومضغ في "ثورة 17 تشرين" التي انفضحت في الشوارع والانتخابات والاستشارات والانتماءات والزيارات.
الحلول الجذرية تستلزم تحركا وطنيا يفرض ذاته على العالم. لكن سؤالين عفويين يستوقفاننا: هل فيما نحن عاجزون عن تشكيل حكومة جديدة وغارقون في المشاكل ونعدو نحو "جهنم"، نستطيع أن نستعيد المبادرة؟ ممكن. ومن تراه يقود هذا التحرك ويتصدى ويواجه ويقاوم ويفاوض؟ من تراه ينادي الشعب فينتفض، والأمم فتلبي، والتاريخ فيحضر؟ جميل أن نحلم، لكن معشرنا غالبا ما حقق أحلامه قبل أن يبددها سواه. لا حل دون أحلام، ومن الأحلام تولد القيادة. هذه معادلة الوجود اللبناني في تاريخ لبنان.