كنت سفيرا ناجحا وخذلني الصبر
كريم فرمان
ان مهمة السفير جد صعبة وليس كما يتصور البعض انها مجرد وظيفة علاقات عامة وتلبية دعوات وزيارات او حضور...
المناوشات السياسية في محاولة إنقاذ دولة الملالي في العراق التي يتزعمها مقتدى الصدر تعيش حالة ارتباك وتناقضات كبيرة في سعيها لاستهداف الذات والتضحية بالكتلة الشيعية العراقية المحتجة ضد الوضع المأساوي الذي تنزلق فيه البلاد دون أي بوادر حل، وكان آخرها محاولة استهداف السفارة الأميركية في بغداد بصواريخ تباينت الروايات حول عددها ومكان سقوطها، بينما يصرّ الشرفاء من المحتجين العراقيين - وغالبهم من الطائفة الشيعية - الذين وصفوا تحرّكات الصدر بالخيانة على النزول إلى الشوارع وباقي مدن العراق في الجنوب دعماً للحراك الذي لم يهدأ.
وعلى الرغم من تنديد رئيس حكومة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي بالهجوم إلا أن وصفه بأنه «تصرف فردي غير مسؤول» لا يغير من حقيقة أن مثل هذه المناوشات والمفرقعات الرمزية لن تصيب إلا الجسد العراقي بتبعاتها وتداعياتها الخطرة وعلاقته ليس بالولايات المتحدة بل بالمجتمع الدولي الذي يرقب حالة القفز نحو القوارب الغارقة للملالي في العراق وتصاعد حالة العنف تجاه المحتجين واستخدام الرصاص الحي لا سيما بعد انحساب كتلة التيار الصدري الذي بعد دعوته إلى وقفة مليونية تراجع عنها بحجة «درء الفتنة»، لكن الفتنة ظلت قائمة ويقظة مع تصريحاته وتهديده للمحتجين بأنه سيتحول إلى مربع مساندة القوات الأمنية.
تراجع الصدر وطلب من أنصاره عدم التظاهر لأجله، لكنه هدد المحتجين بأنه سيساند القوات الأمنية ضدهم في إشارة إلى أن الأزمة الحقيقية في العراق رغم كل ما يقال عن «السيادة» في المصالح الضيقة للنخب السياسية والفاعلين وارتباكهم في الانحياز لمربع الملالي الذي يزداد انحساراً على الأرض على مستوى الشعبية وإن تعاظم تغلغل الميليشيات والأذرع وانفلاتها حتى عن التعاون مع المؤسسات الحكومية الضعيفة والهشة .
مليونية الصدر المتراجع عنها لم تأتِ بسبب الخوف من التداعيات قدر أنها قوبلت بممانعة مماثلة من مليونيات متعددة في بغداد والبصرة والناصرية ومجموعات واسعة في النجف وكربلاء وبأعداد ساهمت في تخييب ظن السيد مقتدى الصدر واستثماره لتياره على الأرض كرسالة إلى الولايات المتحدة في إعادة موضعته ككارت وكقوة فاعلة وفي إشارة ولاء مجانية لدولة الملالي.
دلالات الارتباك الصدري إشارة واضحة إلى أنه اختار القفز إلى القوارب الغارقة، حيث يصرّ المحتجون على عدم العودة إلى بيت الطاعة لأذرع وميليشيات الملالي واختطافهم لحالة الدولة العراقية، فحالة الاحتقان ضد نفوذ طهران غير مسبوقة، وهي نفس الحال التي يعيشها قرينه في لبنان حسن نصر الله وإن كان بشكل أقل بسبب حالة الإسناد الحكومي ومحاولة الذهاب إلى آخر مساحات الاحتمال للانهيار الاقتصادي والفشل في تهدئة غضب المحتجين. الصدر بقفزه المتهور حاول تجسيد ممانعة ومكابرة حسن نصر الله دون جدوى، وبحسب منصة «العالم الجديد» العراقية نقلاً عن مصادر لم تسمها، فإن طهران بعد تصفية الولايات المتحدة لقاسم سليماني ارتأت التحول إلى استراتيجية «المركزية» في توجيه أذرعها في العراق من خلال التخلي عن الأسماء القديمة والشخصيات التقليدية مثل نوري المالكي الأمين العام لحزب «الدعوة» وهادي العامري رئيس «منظمة بدر»، وأشار تقرير «العالم الجديد» إلى أن الملالي شكلوا غرفة عمليات مشتركة وطارئة ضمت «الحرس الثوري» والمخابرات والخارجية وقيادات من «حزب الله» اللبناني لترسيم استراتيجية جديدة في التعامل مع المشهد العراقي بهدف تجاوز حالة الفشل في السيطرة على الاوضاع المتفجرة في العراق.
وبغض النظر عن استراتيجية الملالي الجديدة، فهي تعبّر عن أنها لا تفكر أبعد من أرنبة أنفها في مستقبل العراق، بل ووضعية أصدقاء الأمس من الشخصيات السياسية، الذين انحازوا لها وسمحوا بنشر كتلها وأذرعها وميليشياتها وتمكينها .
مآلات هيمنة دولة الملالي المتخيّلة لن تجد في ظل انهيار الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ما يشفع لها رغم الشعارات الهادرة على الأرض والواقع، سواء في العراق أو لبنان، وكل مساعيها المتمثلة في محاولة نقل الصراع إلى أوسع مدى ممكن عبر إشعال المنطقة، وهو ليس سوى محاولات بائسة لتغطية الفشل في تسيير الأوضاع في داخل إيران، وتجليات ذلك على سياسات الهيمنة للملالي في العراق الذي ينتفض ضده المكوّن الشيعي غير المسيّس اليوم متخلياً حتى عن مقتدى الصدر وغير آبه بتهديداته، وهو ما يشبه رفض المحتجين في لبنان كل «الزعرنة» من قبل أنصار «حزب الله» في التشغيب عليه لأنه لا يفكر إلا في الخروج من أزمته في بناء الدولة ولا يهم أن يكون ثمن ذلك الخروج من تبعات تلك الهيمنة الإيرانية على الحزب المهيمن على توجهات الفاعلين السياسيين. كل محاولات ترحيل الأزمات وإلقاء التهم ومحاولة استعداء دول المنطقة المستقرة وفي مقدمتها السعودية أو محاولة استفزاز الولايات المتحدة عبر شعارات جوفاء باتت مجرد مفرقعات إعلامية لم تعد تخدع أحداً.
ويبقى السؤال الحقيقي هو عن حالة الانسداد والعجز التام للنخب السياسية في التعامل مع معضلة «الاستقرار»؟ هذا الفشل لا يخص العراق فحسب بل في كل الدول التي تعيش أزمة الاستقرار والخروج من الانتهازية السياسية لصالح التفكير في مستقبل شعوبها، تلك الانتهازية التي كثّفتها تحركات مقتدى الصدر المرتبكة رغم بساطة الحل رغم تكلفته الباهظة على الانتهازيين. الحل المتمثل في تأمين احتياجات المواطنين والشعب الأمن أولاً والعيش الكريم والإحساس بأنهم معنيون في مخططات ورؤية حكوماتهم، وكلما فشلت الأنظمة المتعثرة في السعي إلى تأمين تلك الأساسيات فإن كل أقواس الآيديولوجيات السياسية والنظم الطائفية والعشائرية أو حتى ادعاءات التعددية والديمقراطية ستذهب أدراج الرياح {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».