كنت سفيرا ناجحا وخذلني الصبر
كريم فرمان
ان مهمة السفير جد صعبة وليس كما يتصور البعض انها مجرد وظيفة علاقات عامة وتلبية دعوات وزيارات او حضور...
كان ينقص غبطة البطريرك بشارة الراعي أن يحدد له بعض السياسيين الوارثي النعمة، والأحزاب الحديثي العهد طبيعة علاقته بأبرشياته ودورها. إذا بليتم بالجبن فاستتروا. الكمين الذي تعرض له المطران موسى الحاج ليس حادثا بسيطا وبريئا. لم يفتعل لكي يحل سريعا. ولن يحل ذات يوم من دون آثار جانبية وأضرار. والبطريركية المارونية ليست قاضي تحقيق لكي تحدد المسؤولية الإسمية عن نصب الكمين. توجد مجموعة حاكمة بالتكافل والتضامن، أذرعها تمتد إلى جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وقضاتها وتتوزع ارتكاب الجنح والجنايات. وإذا لم تكن هذه المجموعة وراء ما حصل للمطران الحاج، فلتتفضل وتجد حلا فوريا للحادث وتعتذر، وإلا تدين نفسها بنفسها. لكن ما نعرفه هو أن للحادث أبعادا ترمي إلى التأثير على مواقف البطريرك بشارة الراعي من عدة قضايا، أبرزها: انتخابات رئاسة الجمهورية، قيادة الجيش، حاكمية مصرف لبنان، تسييس القضاء، سلاح حزب الله، مفاوضات الطاقة مع إسرائيل، إلخ...
لا نستهولن هذه الروابط، فعلى وقع هذا الكمين المدبر، يريد البعض إسكات صوت المعارضة، وتحقيق أهداف عدة في توقيت محلي وإقليمي ودولي مليء بالمفاجآت والتحولات. ولقد تقصد مفتعلو الحادث ربط مصدر المساعدات المالية والطبية بواقع القطيعة مع إسرائيل لإحراج أطراف سياسية، فتحجم عن التضامن مع بكركي والمطران. هكذا، رأينا قيادات مختلفة تلتزم الصمت، وأخرى تتبرأ وتزايد، وأخرى تسقط حقها من المساعدات الآتية إليها من أنسبائها في إسرائيل.
ليس من باب المصادفة أن يتم التعرض للمرجعيات المسيحية، وتحديدا المارونية، كلما كان هناك مشروع لضرب الكيان اللبناني. هذا واقع من سنة 1958 إلى اليوم. وحين برزت مرجعيات قوية غير مسيحية جرى التعرض لها أيضا كخطف الإمام موسى الصدر سنة 1978 واغتيال الرئيس رفيق الحريري سنة 2005. إن بروز رجل (أو امرأة) يغير وجه التاريخ، وكذلك غيابه. حاليا، يوجد رجل يزعج الجماعة الحاكمة أكثر من غيره، هو غبطة البطريرك الماروني، الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. صخرة تعترض طريقهم فاعترضوا طريق المطران. يريدون منع البطريرك من المشاركة الفاصلة في اختيار رئيس الجمهورية الجديد إذ هو يريد رئيسا ينقض، وهم يريدون رئيسا يكمل.
لدى وقوع المطران موسى الحاج في الكمين المتعدد الجنسيات اللبنانية (17 تموز/يوليو 2022)، استبعدنا عمدا تورط حزب الله فيه، فامتعض أصدقاء وتعجبوا. وعوض أن يقدر الحزب هذا الموقف لإنضاج حوار ناشئ، أتحفنا بسيل تصاريح تخوين، واستدعى إعلاميين من الاحتياط لشن حملات دنيئة على البطريرك الراعي والمطران الحاج وبيئتهما حتى لم يعد أمامنا سوى ترداد: "كاد المريب أن يقول خذوني".
لا ينطق مسؤول في حزب الله من دون تأشيرة من قيادته. وبالتالي، كل تصريح لمسؤول فيه يعبر رسميا عن موقف الحزب، خصوصا حين لا يصدر تكذيب يدحض التصاريح المنافية لآداب الشراكة الوطنية التي تفوه بها أخيرا رهط من قيادات الصف الأول: السيد حسن نصرالله نحى الدولة واستولى على قرارها في المفاوضات مع إسرائيل، واقترح على المطران الحاج سلوك طريق الأردن عوض الناقورة إلى إسرائيل. الشيخ نعيم قاسم خيرنا بين تأييد مشروع حزب الله أو الرحيل. السيد هاشم صفي الدين أنذرنا بأن نهايتنا اقتربت بعدما صبر علينا أربعين سنة. والنائب محمد رعد راق له أن يتهم المطران موسى الحاج بالعمالة، إلخ... ورغم ذلك يستفظع حزب الله انتقاده ويأخذ على خاطره.
حين يضع حزب الله اللبنانيين الذين لا يشاطرونه الرأي في موقع العدو، لا يلومنهم إن رفضوه. وحين يعتبر الذين يفضلون السلام العادل على الحرب العبثية عملاء، لا يستغربن إن عارضوه؛ ليس حزب الله معيار الوطنية في هذا البلد. وحين يتنازل حزب الله في مفاوضات حقول الغاز عن حدود لبنان التاريخية (الخط 29) للوصول إلى اتفاق مع إسرائيل، ويعقد بالمقابل أي اتفاق بين اللبنانيين، يحلل لنا أن نتساءل عن جدوى بقاء السلاح تحت شعار المقاومة. مؤسف أن يدفع حزب الله اللبنانيين إلى مرحلة المواجهة معه، وهم الذين أرادوا أفضل العلاقات معه كما مع سائر القوى الأخرى. لم يعد المطلوب الاعتراف بوجود المقاومة، بل الاعتراف بمقاومة لم تعد موجودة.
غريب أن تتمكن شعوب علمانية أو ملحدة من التعايش في ما بينها ضمن دولة واحدة، ونعجز نحن اللبنانيين المؤمنين بأدياننا عن أن نتعايش بأمن وسلام ومساواة. وغريب أيضا أن تنجح إسرائيل في عقد اتفاقات سلام وتطبيع مع غالبية الدول العربية والإسلامية، ونفشل نحن اللبنانيين في عقد سلام في ما بيننا ونبني دولة واحدة. هل تعاليم الأديان هي العائق؟ أم متدينون شوهوا رسالة الأديان؟ أم دين خرج عن مفهوم الأديان؟
جميعنا ننتمي إلى "الحواريين". فالإبراهيمية التي تجمع اليهود والمسيحيين والمسلمين هي حالة حوار ثلاثية نشأت منها حالات أخرى كالأنطاكية التي هي حالة حوار ثنائية بين المشرق والغرب. وفي لبنان أطلقنا الفكرة اللبنانية التي هي أيضا حالة حوار رباعية بين المسيحية والإسلام والدرزية والعلمانية. لكن المشكلة أن الإبراهيمية تحولت من خلال تفرعاتها من حالة حوارية إلى حالة تصادمية على مدى هذا الشرق. بعض الأطراف الإبراهيمية رمى عنه ثقافة الحوار وفضل نزعة التوسع على حساب إبراهيميين آخرين، وكان ما كان حتى يومنا هذا. إن اسم المطران الثلاثي مع "واو" العطف هو خير تعبير عن الحالة الإبراهيمية الأولى التي كان يفترض أن تسود في الشرق: مطران وموسى والحاج...
أرادت البطريركية المارونية الأنطاكية أن يكون لبنان حالة إبراهيمية حديثة، فيكون للمسيحيين ولجميع اللبنانيين على حد سواء، فإذا بلبنان، بعد مئة سنة، يمسي للجميع على حساب المسيحيين. وحبذا لو يدرك شركاؤنا في الوطن وجود هذا الشعور الصادق في المجتمع المسيحي عوض انتقاده بشكل سطحي. هذا الشعور هو ما يدفع مجموعات مسيحية وغير مسيحية إلى طرح صيغ دستورية جديدة للبنان. وأتت حادثة المطران موسى الحاج لتعزز هذا الشعور، بل لتشجع المترددين على التفكير الجدي في بدائل وطنية. ليس في وارد المسيحيين، ومن يشاطرهم هذه المشاعر، القبول بالواقع الحالي. ولا بد من ترجمة هذا الرفض بخيار تاريخي يعيد التوازن إلى الحالة الإبراهيمية في الشرق وإلى الخصوصية اللبنانية بما هي إنسان وكرامة وحرية وسلام وحضارة، قبل أن تكون أرضا وصراعات وانحطاطا واضطرابا وقرونا وسطى.