وهي لا تعني بأي حال من الأحوال دكتاتورية الغالبية الانتخابية وتحكمها بالبلد حسب فلسفتها أو مزاجها، بل هناك ثوابت يحترمها الجميع تتعلق بالحقوق والحريات الشخصية وحرية التعبير عن الرأي وحق الأفراد في اختيار أنماط الحياة التي يفضلونها، والتي لا تتعارض مع القانون، الذي يفترض أنه صيغ وفقا للمشتركات المجمع عليها بين شرائح المجتمع المختلفة. هناك عدة مقومات يجب أن تتوفر في أي بلد كي يكون مؤهلا لتطبيق النظام الديمقراطي، وسوف استعرضها باختصار لاحقا.
في زيمبابوي مثلا كان الرئيس روبرت موغابي (يفوز) في كل انتخابات أجريت في ظل حكمه، وقد بقي في السلطة، رئيسا للوزراء ثم رئيسا للدولة، منذ عام 1980 حتى أزاله الجيش عام 2017 بعمر 91. والشيء حصل مع رئيس الفليبين الراحل، فردناند ماركوس، الذي لم يكتفِ بتزوير الانتخابات لصالحه، بل أقدم على قتل زعيم المعارضة، بنينو أكينو، في مطار مانيلا عند عودته إلى بلاده للمشاركة في الانتخابات عام 1983 فأجج بذلك الفلبينيين ودفعهم إلى القيام بثورة شعبية عارمة، سمّوها (قوة الشعب)، اكتسحته من السلطة عام 1986 ونصَبت أرملة زعيم المعارضة المغدور، كريزون أكينو، رئيسة للدولة، ثم انتخب ابنها، الذي يحمل أسم أبيه، رئيسا في فترة لاحقة.
وفي العراق كان صدام حسين (يفوز) فوزا ساحقا في كل انتخابات أجريت في ظل حكمه، وكيف لا وهو المرشح الوحيد؟ بل إنه فاز في إحدى الدوائر الانتخابية بنسبة 101%. وعندما سُئل أحد المسؤلين كيف يكون عدد المصوتين للرئيس أكثر من عدد الناخبين؟ فأجاب (لقد صوت له الشهداء!).
بشار الأسد هو الآخر (يفوز) في كل انتخابات أجراها حتى الآن، وكذلك كان الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، والرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، والرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.
وفي الأرجنتين يفوز الحزب البيروني بالرئاسة بغض النظر عن المرشح، وعادة ما يحصل الرئيس البيروني على شعبية كبيرة، كما حصل الرئيس كارلوس منعم، ذو الأصل العربي، بين 1989-1999، وهذه الشعبية الواسعة تمكِّنه أن يحكم كيف يشاء، حتى قال أحد علماء السياسة إنه "لا يمكن إقامة نظام ديمقراطي طبيعي في الأرجنتين إلا عند حظر الحزب البيروني"! لأن الأرجنتينيين سيصوتون لمرشحه بسبب شغفهم بالزعيم الأرجنتيني الراحل خوان بيرون، الذي أحبه الفقراء وأبناء الطبقات العاملة والوسطى، وانتُخب رئيسا ثلاث مرات (غير متتالية) ثم خَلَفَته زوجته، إيزابيلا بيرون، في الرئاسة بعد وفاته عام 1974.
يجب أن تتوفر مقومات الديمقراطية ابتداء، قبل أن تُطرح للتطبيق في أي بلد من البلدان، وفي خلاف ذلك فإنها تكون مزحة، بل كارثة على البلاد التي تحل فيها، كما هي الحال في العراق الآن عندما أتت بجهلة وسراق إلى سدة الحكم، اوصلوا البلد إلى حافة الهاوية. أهم مقومات الديمقرطية هو وجود دولة متماسكة يواليها مواطنوها جميعا. فإن كانت هناك شريحة كبيرة من المواطنين لديها نزعة انفصالية أو أنها تسعى للالتحاق ببلد آخر، فلا يمكن أن تقام ديمقراطية ناجحة في هذا البلد.
في العراق مثلا، مثل هذه النزعات موجودة بين سكانه الكرد، وهم لا يخفونها بل يعلنونها في كل مناسبة ويجرون الاستفتاءات عليها. الرئيس العراقي الحالي صوّت عام 2017 لصالح الانفصال عن البلد الذي يترأسه الآن، أي قبل أن يتولى رئاسة العراق بعام واحد. ربما غيَّر الرجل رأيه وأصبح يؤمن بوحدة العراق الآن، "فالأسبوع زمن طويل في عالم السياسة"، كما قال هارولد ويلسون. السكان الكرد بحاجة لأن يحسموا أمرهم فإن كانوا مصممين على إقامة دولة قومية، فعلى باقي العراقيين أن يحترموا خيارهم، شريطة أن تكون هذه الدولة قوية، بحيث لا تستغلها الدول الأخرى لتحقيق مآربها، ومنصفة لسكانها جميعا، بحيث لا تحكمها أقلية متسلطة، والأفضل لها أن تتحالف مع العراق في المرحلة الانتقالية لوجود روابط تأريخية وثقافية واقتصادية.
هناك أيضا شريحة من العراقيين، تحمل تصورا لا يمت للواقع بصلة، يجعلها تابعة لإيران، حتى وإن كان ذلك يضر بالعراق، لذلك يجب أن تضطلع الدولة العراقية بمهمة تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ مبدأ قدرة الدولة على حماية سكانها جميعا من احتمالات الاضطهاد الديني والمذهبي والقومي والمناطقي. مثل هذا المسعى سوف يحرر كثيرين من أوهامهم التي تدفعهم (للاحتماء) بإيران أو غيرها وهو يتطلب أن يرتبط العراق بالمجتمع الدولي ويوقع على عهود ومواثيق حقوق الإنسان ويدعم تطبيق القانون الدولي. عندما تتعزز علاقات العراق بالدول العربية والإقليمية والدول المتقدمة اقتصاديا وتكنلوجيا، فإن العراقيون جميعا سيشعرون بأنهم ليسوا بحاجة لحماية دولة أخرى يمكن أن تستغل ضعفهم لتحقيق طموحات قادتها المناهضة لمصلحة بلدهم.
المقوم الثاني للديمقراطية هي وجود جهاز إداري مدني كفوء أو ما يسمى بـ(الجهاز البيروقراطي)، أي جهاز الخدمة المدنية الذي يدير الدولة بكفاءة واقتدار وحرفية. في العراق مثلا، هناك جهاز خدمة مدنية عملاق، لكنه مثقل بالموظفين ويتبع طرقا تقليدية تجاوزها الزمن، بينما ينخر الفساد في جسده المنهك، فأصبح عالة على البلد بدلا من إعانته على تسيير شؤونه وتحقيق التقدم المنشود.
هناك أيضا ضرورة لوجود مجتمع اقتصادي منظم وفاعل يخدم البلد ويضطلع بتنفيذ المشاريع الاقتصادية الضرورية للبناء الاقتصادي الحديث. والمجتمع الاقتصادي، وهو المقوِّم الثالث، يتضمن وجود شركات متطورة ذات سجل إنجازي معروف، تكون قادرة على تنفيذ المشاريع الإنمائية والخدمية وتوظيف العاطلين عن العمل وتأهيل غير المؤهلين منهم، حتى وإن كان ذلك بالاشتراك مع شركات عالمية. والمقوّم الرابع هو وجود بيئة قانونية راسخة يمكنها أن تُطَمْئن الناس جميعا، والمستثمرين خصوصا، بأن حقوقهم مصانة وأموالهم لن تضيع وأن الفساد لن يطاولها لأن القضاء سيتصدى بقوة وصرامة لكل من يتجاوز عليها. والمقوِّم الخامس هو وجود مجتمع مدني فاعل يملأ الفراغ الذي تتركه الدولة. فالحكومات لا تستطيع أن تقوم بكل شيء، لذلك هناك حاجة في المجتمع الحديث لوجود مجتمع مدني راسخ تسنده منظمات فاعلة وقوية ومعززة ببيئة قانونية متماسكة تعزز من تماسك المجتمع وتملأ الفراغ الذي تتركه الدولة وتعمل وفق ضوابط ومعايير قانونية شفافة.
أما المقوِّم السادس للديمقراطية، والذي لن يكون فاعلا وكفوءا دون نشوء المقومات الأخرى قبله، فهو المجتمع السياسي المنظم القادر على ممارسة العمل السياسي النزيه الجدي الهادف إلى تعزيز المؤسسات الدستورية والمدنية وتوفير أفضل الخدمات للمواطنين عبر التنافس الحر النزيه بين الأحزاب السياسية المتنافسة على تقديم الأفضل للبلد.
وبعد أن تتوفر هذه المقومات جميعا، يجب أن يكون هناك نظام انتخابي عادل ونزيه وملائم لطبيعة سكان البلد كي يفرز حكومة ملائمة وكفوءة تخدم البلد. ومن هنا فقد وجدت أنظمة انتخابية متعددة كي تختار منها الدول ما يلائمها. لا يوجد نظام انتخابي كامل الاوصاف ويخلو من العيوب، ولكن هناك أنظمة انتخابية تنتج أنظمة أكثر تمثيلا للشعب، وأكثر شفافية، بحيث تخضع للمحاسبة والمراقبة القضائية. أفضل الأنظمة وأكثرها عدالة، بإجماع علماء السياسة، هو النظام البرلماني الذي يأتي عبر نظام التمثيل النسبي الذي يترجم أصوات الناخبين إلى مقاعد برلمانية، ولا يدع فئة من المجتمع دون تمثيل. ومن محاسنه أنه الأكثر ديمقراطية لأنه يجعل البرلمان فسيفساء تمثل كل شرائح المجتمع وتوجهاته السياسية والاجتماعية ويدفع السياسيين لأن يتبنوا خطابا وطنيا جامعا، وليس مناطقيا أو قوميا أو طائفيا أو طبقيا. ولكن من مساوئه أنه ينتج حكومات إئتلافية في المجتمعات شديدة التنوع، وهذه الحكومات قد تكون ضعيفة بسبب التناحر السياسي الذي عادة ما يسود بين الأحزاب المشاركة فيها. لكن الحكومات الضعيفة تبقى أفضل من الأنظمة الدكتاتورية.
ونظام التمثيل النسبي ليس نظاما واحدا بل هناك العديد من التفرعات التي تعتمد أنظمة رياضية ونسبا مختلفة يرتضيها المشرعون ويعتبرونها ملائمة وأشهرها هو نظام (دي هوندت)، الذي سمّاه الفرنسيون (سان ليغو) وسمّاه الأمريكيون (جفرسون)، وهو النظام الذي طرحه العالم الأمريكي دانيال وبستر عام 1832 فعدله الرياضي البلجيكي فيكتور دي هوندت، ومن بعده الرياضي الفرنسي أندريه سان ليغو الذي أوجد نظاما مشابها. معظم دول العالم الديمقراطي اختارت نوعا من أنواع التمثيل النسبي، وأبرزها هو نظام القائمة النسبية (List PR) الذي ينقسم هو الآخر إلى أنظمة فرعية حسب المعادلة الرياضية المستخدمة في حساب الأصوات، ثم يأتي النظام النسبي المختلط (MMP) الذي ابتكرته نيوزلندة، والثالث هو نظام الصوت المفرد المتحوِّل (ٍSTV).
النظام الآخر السائد هو ما يعرف بنظام الغالبية المطلقة المتعدد الدوائر، وهو الآخر ليس نظاما واحدا بل يتنوع من بلد لآخر حسب ما يرتضيه مشرعو ذلك البلد ويقبل به الناس. وهذا النظام معتمد في بريطانيا والولايات المتحدة، ومعتمد جزئيا في دول أخرى. في بريطانيا مثلا يطلقون عليه اسما يليق به وهو (الفائز يأخذ كل شيء- Winner takes all)! أي أن هناك دوائر انتخابية يتنافس فيها المرشحون، فإن فاز أحد المرشحين بصوت واحد أعلى من باقي المرشحين فإنه سيمثل المنطقة بينما تذهب الأصوات الأخرى هدرا، ويبقى المصوتون لها دون تمثيل حقيقي. وفي ظل هذا النظام، تسود دائما فلسفة الغالبية على باقي مكونات المجتمع، وفي بعض البلدان، تَقمَع هذه الفلسفة التنوع الثقافي وتهمِّش الأقليات.
في بلدان أخرى هناك نظام أفضل قليلا من هذا بحيث أنه يعتمد الغالبية المطلقة لكنه يضع نسبة من الأصوات يجب أن يحققها المرشح كي يحظى بتمثيل منطقته، كأن تكون النسبة 40%، مثلما هو سائد في كوستا ريكا، وإن لم يحقق أحد المرشحين هذه النسبة، تُجرى جولة ثانية بين المرشحين الأكثر أصواتا، لفرز النائب الأكثر شعبية. في أنظمة أخرى، يخرج الحزب الذي لا يحظى بنسبة 12.5% من الأصوات من المنافسة، كما هي الحال في فرنسا. بعض الأنظمة تضع شروطا كأن يكون الفائز حائزا على غالبية الأصوات مجتمعة، أي أن يكون حائزا على أصوات أعلى من كل منافسيه مجتمعين، فإن لم يحصل على ذلك فإن الانتخابات تعاد ويشترك فيها المتنافسان اللذان حصلا على أعلى الأصوات، بينما يُستثنى المرشحون الآخرون من المنافسة.
بعض أنظمة التمثل النسبي تسمح للناخب أن يختار المرشح الذي يرغب به، بل تسمح لأن يؤشر الناخب على خياراته بين المرشحين، كالنظام الانتخابي في فلندا، لكن استمارات الانتخاب تكون معقدة، وقد تدفع الناخبين للعزوف عن البحث والتدقيق في قائمة تضم عشرات الأسماء، فيلجأوا إلى التصويت للقائمة ككل دون التأشير على خياراتهم من المرشحين. ويسمح هذا النظام الانتخابي المتطور للناخب أن يعبِّر عن رأيه بالمرشحين، ومن منهم الأفضل في رأيه، فيمكِّنُه أن يؤشر على خياراته، الأول والثاني والثالث، كما هو النظام الانتخابي في استراليا، الذي يسمح بنقل أصوات المرشح الحاصل على أدنى الأصوات، كخيارٍ أول، إلى المرشح الأعلى منه، والهدف هو استثناء المرشح الأضعف وانتخاب المرشح الأقوى.
بينما تقيد أنظمة أخرى خيارات الناخب بأن تجعله يصوت إلى القائمة ككل وحسب الترتيب الذي وضعه الحزب للمرشحين، كما هي الحال في أسبانيا. بعض البلدان تخلط بين نظامي الغالبية المطلقة المتعدد الدوائر والتمثيل النسبي، مثل ألمانيا ونيوزلندة وفنزويلا، بحيث يُنتخب نصف أعضاء البرلمان عبر نظام الغالبية والنصف الآخر عبر التمثيل النسبي، بهدف معالجة الاختلال في التمثيل الذي يحدثه نظام الغالبية، واستيعاب المرشحين الذين يتمتعون بقد من الشعبية. في إيطاليا يُنتخَب ثلاثةُ أرباع الأعضاء عبر نظام الغالبية، والربعُ الآخر عبر النظام النسبي. وتستخدم الدول الديمقراطية أنظمة انتخابية مختلفة في الانتخابات البرلمانية والمحلية والرئاسية.
ختاما، يجب أن تتوفر مقومات الديمقراطية أولا، كي تكون ناجحة وراسخة ونافعة، ومن الضروري أن يلجأ المُشرِّعون إلى اختيار نظام انتخابي يلائم طبيعة البلد السكانية. العدالة تتحقق عبر نظام التمثيل النسبي بكل تنوعاته، وهو السائد عالميا، وبالإضافة إلى كونه النظام الأكثر عدالة، فهو أيضا الأنسب للدول شديدة التنوع، ثقافيا وقوميا وطبقيا، لأنه ينتج حكومات ومجالس تشريعية تمثل كل تلاوين المجتمع، وهذا من شأنه أن يرسخ الاستقرار والتماسك الوطني.