لبنان.. مؤشر سياسي لفاعلية المجتمع الدولي

تبدو المسافة بين اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان منذ خمسة عشر عاما، وبين انفجار بيروت أخيرا، واسعة في ردود الفعل الدولية، ففي الحالة الأولى انتفضت الكثير من الدول وتجاوزت كلمات التنديد وعبارات الشجب التقليدية، وطالبت بمساءلة دولية عاجلة، بينما اكتفت في الثانية بقدر من التآزر المعنوي والمساعدات الإنسانية.

تشير المقارنة بين الحادثين إلى عمق التغير الذي لحق بوضع لبنان الإقليمي، وتأثره الدقيق بما يجري في المنطقة دون التورط رسميا في أي من الصراعات الحادة، لكن تقف بعض القوى الفاعلة في خارطته السياسية والأمنية في قلبها أو على هامش فيها، ما جعل الارتدادات عنيفة أحيانا في الداخل.

وتؤكد أيضا أن هناك تآكلا في دور القوى الكبرى، فمن الانخراط الكبير في تفاصيل اغتيال الحريري واتخاذه وسيلة لتصفية المزيد من الحسابات مع سوريا، إلى التمهل في توجيه اتهامات حاسمة إلى الجهة المسؤولة عن حادث مرفأ بيروت بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو التلويح بعقاب حاسم.

يقود الاهتمام بلبنان وإخراجه من عقدته إلى منح بريق أمل لإطفاء النيران في أزمات أخرى، ولذلك يمكن القياس على تجربته عند استمرار الصراع، أو التوصل إلى تسوية سياسية ناجعة تؤكد أنه ما زال بلدا يستوعب جميع الأطياف

كأن المتفجرات التي جرى تكديسها في منطقة حيوية مجهولة أو بلا صاحب، فقد طغت عبارات الألم والمواساة على الرغبة في توقيع العقاب سريعا، ما يعني أن هناك تحولا في مكانة لبنان الإقليمية، وتغيرا في النظرة الدولية إليه، وبعد أن كان يؤخذ كضابط إيقاع لبعض التوازنات، ومؤشرا لمعرفة مسار الكثير من التصورات، بات مفتقدا لهذا النوع من المزايا، والتي وضعته في مرحلة سابقة داخل بؤرة تصرفات وسياسات مهمة شهدتها المنطقة.

تزامن التخلي عن هذه الأدوار، طواعية أو قسرا، مع تخلّ آخر يتعلق بتراجع انخراط المجتمع الدولي في الأزمات المشتعلة بالمنطقة، فقد تُرك لبنان يغرق في مشكلات اقتصادية وأمنية واسعة ولم تهبّ دول قريبة منه لنجدته، وبدا البعض مستمتعا بتجاذباته السياسية، ولم يعبأ هؤلاء بالمصير المجهول الذي يواجهه.

إذا كان حادث اغتيال الحريري مقدمة لتغيرات في البيئة الإقليمية، لجهة تفكيك وتركيب جزء كبير من الارتباطات بين سوريا ولبنان، فمن الممكن أن يصبح انفجار بيروت مقدمة لتغيرات في الخارطة السياسية، خاصة في حالة ثبوت تورط حزب الله فيه، لزاوية تقليم أظافر الحزب، أو فتح المجال أمام المزيد من الفوضى.جاء حادث بيروت وسط أجواء غائمة، وحافلة بالأحداث داخل لبنان وفي دول الجوار، كذلك في أدوار القوى الكبرى التي أسهمت دوما في منع انهيار أحجار الدومينو، الأمر الذي جعل تداعيات الحادث مفتوحة على احتمالات متباينة، ويصعب تحديد المسار الذي يمكن أن تسلكه.

أضحت العيون والآذان مصوبة ناحية حزب الله، ومنتظرة تلمس الخطوات السياسية، ومعرفة آليات التعامل معه بموجب التطور المفصلي، فقد أصبح الحزب منذ فترة قوة فوق القوة، وفشلت محاولات تقويضه، سلما أو قهرا، حيث وضع مستقبله في كفة، ومستقبل الدولة اللبنانية في الكفة المقابلة.

حجّمت هذه المعادلة القلقة من تحركات بعض القوى في لجم الحزب، وثمة من وظّفها لصالح ترويض لبنان برمته، وجاءت الكثافة النادرة في التوترات الإقليمية وما صاحبها من عجز دولي في التعامل معها وعدم القدرة على ضبط إيقاعها، لتضاعف من مكانة الحزب، وتصيبه بالتضخم المادي والمعنوي.

 

لم تعد أذرع حزب الله السياسية والعسكرية قاصرة على لبنان وتحكمه في تعيين وإقالة رؤساء الحكومات، أو علاقته مع إيران وأصبحت مكشوفة أكثر من أيّ وقت مضى، بل عبرت الحدود، وامتدت إلى سوريا واليمن والعراق، ما أخلّ بتوازنات مختلفة في المنطقة، لأن التمدد ترافق مع انخفاض منسوب تأثير قوى كبرى في الأحداث المتلاحقة التي تمر بها المنطقة.
أفضت هذه الحالة إلى صعوبة السيطرة على الصراعات، وأغرت بعض القوى الإقليمية، تركيا وإيران مثلا، على الاستفادة من اللحظة الراهنة في تكريس نفوذها من خلال التدخل في أزمات بعيدة عنها، واستثمرت التباعد الحاصل في مواقف قوى كبرى في مدّ بصرها لما هو أبعد من طموحاتها.

تحوّل لبنان إلى إحدى ضحايا التوجهات القاتمة، ودفع ثمنا باهظا، ومرجح أن يدفع أثمانا أخرى أشدّ تكلفة، ما لم تعيد القوى الفاعلة في المجتمع الدولي النظر في ممارساتها التي أدخلت دولة مثل لبنان، تعتمد على موزاييك سياسي معقد، في أتون أزمة لم تستطع كل الجهود الوطنية فك شفراتها على مدار الأعوام الماضية.

قد يكون انفجار بيروت ضارا على مستويات إنسانية واقتصادية واجتماعية، لكن غير مستبعد أن يبعث برسالة استفاقة للمجتمع الدولي الذي انصرف عن لبنان وغيره من الدول التي تعجّ بأزمات متفاقمة، تعاملت معها بعض الدول بطريقة قاصرة، وانصبّت الكثير من التصرفات في تبادلات وتوافقات قصيرة المدى، لمنع حدوث مفاجآت تؤثر على الأوضاع التي جرى الاستقرار عليها ضمنيا.

تحتاج بعض الأزمات إلى وقوع زلازل سياسية أو أمنية كبيرة كي تتبدل أحوالها، وتصل إلى درجة الغليان لتخرج من حالتها المراوغة، وربما يكون انفجار بيروت محرضا قويا على إنقاذ رمانة ميزان المنطقة قبل أن تشهد المزيد من التهاوي، فالحادث ضخم وكفيل بتغيير ممارسات حالية، ووقف التراخي والتقاعس والصمت الدولي الذي لعب دورا في أن يتحول لبنان من دولة لامعة إلى فاشلة إقليميا.

إذا كان حادث اغتيال الحريري مقدمة لتغيرات في البيئة الإقليمية، لجهة تفكيك وتركيب جزء كبير من الارتباطات بين سوريا ولبنان، فمن الممكن أن يصبح انفجار بيروت مقدمة لتغيرات في الخارطة السياسية

وضع انفجار بيروت العالم أمام مسؤولية أخلاقية وسياسية، وسوف يؤدي الإخفاق في مداواتها بطريقة صحيحة إلى انعكاسات سلبية تتجاوز حدود لبنان، ويفضي النجاح إلى تقديم نموذج قابل للتعايش والحياة في المنطقة، هو نموذج مصغر لما يمكن أن تصبح عليه بعض الأزمات الإقليمية الساخنة في حالتي الفشل والنجاح.

أعتقد أن المهمة ليست سهلة، وربما في غاية التعقيد، وتتطلب تعديلا واضحا في إجراءات بعض القوى الرئيسية في المجتمع الدولي، إذا كانت هناك نية حقيقية لإنقاذ لبنان من براثن سوس ينخر في بنيانه منذ عقود، تسبب في فقدان الدولة لجزء معتبر من هويتها، ولم يستطع ساستها فهم الرسائل الشعبية التي تعالت في الأشهر الماضية.

يقود الاهتمام بلبنان وإخراجه من عقدته إلى منح بريق أمل لإطفاء النيران في أزمات أخرى، ولذلك يمكن القياس على تجربته عند استمرار الصراع، أو التوصل إلى تسوية سياسية ناجعة تؤكد أنه ما زال بلدا يستوعب جميع الأطياف، ولا تحتكر قراره طائفة بعينها أو تجور على غيرها لمجرّد امتلاكها فائضا من القوة العسكرية.

 

مقالات الكاتب