اللحظة المصرية على الخارطة الإقليمية

شاع الحديث خلال الفترة الماضية عن اللحظات والتوقيتات المناسبة للدول لجهة القيام بأدوار مؤثرة على الساحتين الإقليمية والدولية، وأعاد البعض الإشارة إلى تجارب مختلفة، وجرى التوقف عند نماذج انتهز أصحابها فرصا بدت مواتية للنفوذ والتمدد، باستخدام أدوات خشنة أو ناعمة، أو الاثنتين معا.

تقدمت إيران وتركيا، وامتلكت كل منهما طموحات وأحلاما ورؤى محددة، بصرف النظر عن اتساقها وتعارضها مع القانون الدولي، في حين تراجعت أسهم عديد من الدول العربية الوازنة لأسباب متفرقة، وبينها مصر، وأصبحت أو كادت التطورات في المنطقة رهينة تقريبا لتصرفات قوى غير عربية، مع اتساع نطاق الاختراق عبر تنظيمات محلية، ومساعدة وتواطؤ وتقاعس وكلاء دوليين.

حاولت دول عربية المساهمة بأدوار مختلفة لتحجيم صعود طهران وأنقرة، وفرملة الفوضى التي يتغذيان عليها، وحدثت نجاحات طفيفة ووقعت إخفاقات كثيرة، وبدت غالبية ردود الفعل الفردية والثنائية والجماعية لا تتناسب مع تعاظم التحديات التي يواجهها الأمن القومي العربي.

سعى البعض إلى ملء الفراغ الذي خلفه انهماك مصر وسوريا والعراق وغيرها في همومها المعقدة، وقابلوا عثرات، وظلت حركة مصر كأكبر دولة عربية محكومة بضوابط وحسابات تتعلق بأوضاعها الداخلية التي منعت قيامها بدور مؤثر.

أعادت القاهرة ضبط جزء كبير من بوصلتها وتوازناتها السياسية والاقتصادية والأمنية في الداخل، وامتلكت وفرة عسكرية ملحوظة تمكنها من مجابهة أية تهديدات محتملة، وارتفع مستوى العلاقات مع دول عديدة في الشرق والغرب، وتقاربت رؤيتها في ملفات حيوية مع دول عربية شقيقة، غير أن التقارب لم ينعكس في شكل خطة تتوافق على آليات الحسم في ملفات مصيرية، وبقي الدور العربي المنتظر غائبا.

ربما تكون هناك كوابح منعت حدوث تقدم على المستوى الجماعي، وحالت دون تكوين تحالف حقيقي يتصدى لما تمثله إيران وتركيا وإسرائيل من مخاطر إقليمية جراء تمددها السافر في شؤون بعض الدول، والذي استمد عافيته من التردي الذي تشهده الحالة العربية العامة، ويقود استمرار التدهور إلى استنزاف مضاعف.

تتراص مؤشرات دقيقة تجعل الوقت مواتيا للحديث عن اللحظة المصرية الغائبة وإنهاء الخصام الذي أرخى بظلال سلبية على الأوضاع العربية، وقوّض الدور الإيجابي المنتظر من القاهرة لاعتبارات تتعلق بالانهماك في ترتيب الأوراق الداخلية، والتي قطعت شوطا طويلا يدفع قيادتها للتفاعل والمبادرة الخارجية.

تمر المنطقة الآن بمرحلة فارقة، عجّل بها انفجار لبنان، حيث أصبحت السيولة في منطقة الشرق الأوسط مخيفة، ونجحت بعض الدول في توظيفها لخدمة أهدافها، كما أن تداعيات هذه الحالة تضر بمصالح قوى كبرى، وتهدم الكثير من الركائز التقليدية، ما يعني أن ثمة تغيرا مقبلا حيال القوى الماردة، سواء كانت دولا أو تنظيمات أو أفرادا، تتجاوز حدود التهديد بعقوبات أميركية مع إيران، أو التلويح بها مع تركيا.

قد تكون نقطة البداية بالتوجه نحو ضبط سلوك دولة مثل إيران والقوى التي تعتمد عليها في المنطقة، خاصة أن نظامها وأذرعه وأدواته يواجهون تصدعات من نوع جديد في العراق وسوريا ولبنان، تضاف إلى جملة من المشكلات الداخلية المعقدة.

لن تكون تركيا بعيدة عن المحاسبة أيضا، لأن التحركات التي تقوم بها ولو حظيت بقبول أو تشجيع أو تفاهم من بعض القوى تؤثر على تصوراتهم ومصالحهم في المستقبل، فالمنهج الذي تتبناه أنقرة في الوصول إلى أغراضها سوف تكون له تبعات وخيمة، ويؤدي إلى إيجاد بيئة غير مستقرة بسبب تدفق رعايتها للمرتزقة والمتطرفين والإرهابيين، والذين لن يتوقفوا عند حدود سوريا وليبيا، بل يتوقون إلى الغرب.

أثبتت مصر أنها تتصرف وفقا لضوابط استقر عليها وجدان المجتمع الدولي، ولم تظهر انفلاتا وغضبا ورعونة وغطرسة في توجهاتها، ونسجت علاقات مع جهات عديدة، وحافظت على موازين صلبة مع قوى صغرى وكبرى. بكلام آخر، تقدم نفسها على أنها نموذج رشيد للغاية في منطقة قلقة لم تعهد هذا الدور من قبل، وبقيت لفترة طويلة في عهدة نماذج شاردة.

يحتاج العالم في أوقات التحولات الكبرى إلى قدر من الانضباط في ممارسات الدول الحية، ولدى مصر الحديثة مزايا صاعدة تمكنها لتصبح بارزة في هذا المضمار، وتستطيع تقديم إسهامات جيدة عندما تستثمر التطورات الراهنة، وتتخلى عن الحذر المفرط في الانكماش، وتضع رؤية للتعاطي مع الأوضاع الإقليمية المفتوحة على احتمالات منها ما هو شديد القتامة عليها إذا أصرت على الانكفاء، وما هو واعد إذا قررت الاشتباك الإيجابي على الصعيد الإقليمي.

ليس شرطا أن يكون التحول بالالتحام عسكريا، فهناك اشتباكات سياسية أكثر خطورة، يمكن أن تحقق مجموعة من الأهداف الإستراتيجية، لأن البقاء عند المستوى الفاتر سوف يكون مضرا، فما معنى أن تمتلك مصر الكثير من مقومات القوة الرئيسية وتمتنع عن توظيفها بالشكل الصحيح؟ المعنى الوحيد الذي سيتم استدعاؤه على الفور هو عدم وجود إرادة كافية.

هنا يتم تجاوز اللحظة المصرية، وتتشجع الدول المناهضة للاستقواء، وينتقل فائض القوة من خانة الإضافة إلى وضع أعباء على كاهل الدولة، ويتزايد الخصوم وترتفع الأخطاء، ولذلك تحتاج القاهرة إلى استدارة كاملة وعاجلة نحو القضايا الإقليمية، ولا تكتفي بالحضور المشرف فقط، فالدول الساعية للدور تذهب إليه، وعند الاستدعاء يجب ألا تتأخر وتتلكأ في الاستجابة للنداء.

دخلت مصر اختبارات عديدة الفترة الماضية حول مسألة الدور، وتعرضت لمحن مختلفة، بسبب تدخلات تركيا في ليبيا، وشروع إثيوبيا في بناء سد النهضة وإصرارها على الإضرار بمصالح مصر المائية، وعزم إسرائيل على ضم أراض فلسطينية، وتتعامل مع هذه الأزمات بسلوك منضبط أكثر من اللازم.

وعلى الرغم من التلويح بالقوة في حالة ليبيا، والصرامة في حالة إثيوبيا، والإدانة في حالة إسرائيل، تعرضت لاستفزازات وردت بخطاب يتسم برصانة يراها كثيرون لا تتناسب مع طبيعة التحرشات السياسية.

لم تدخل القاهرة اختبارا عمليا حتى الآن، وردت بخطاب به كثير من الدبلوماسية، ما يجعل معرفة مدى استعدادها للقيام بدور إقليمي في غاية الصعوبة، فهل تختزل قدراتها إلى لحظة أخرى؟ أم أن قيادتها منصرفة أصلا عن فكرة الدور حاليا ومستقبلا؟

ينبع الدور الإقليمي لمصر تاريخيا من رحم الدفاع عن الأمن القومي من خارج الحدود، وليس من باب الرغبة في القيادة والزعامة والتأثير، بمعنى أن الدور بعيد عن الرفاهية والمفاضلة بين خيارات متصادمة، هو جزء متصل بكيان الدولة، ومفروض أن تقوم به شاء الحاكم أو رفض. وهذه هي اللحظة التي طال انتظارها ويمكن الانطلاق منها قبل أن يتحول ضياعها إلى وبال.

مقالات الكاتب