راية ورجال ومنعطفات

من نواميس الكون الإلهية أنّ لا خالد على وجه الأرض، وأن قوله سبحانه:«إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة» أي أجيالاً تخلف بعضها حتى قيام الساعة، بعضها خّيّرٌ يخلف خيّراً، وبعضها دون ذلك، ونعرف أي صنفٍ رحل وأي صنف أتى من رأي السواد الأعظم من الناس، فقد قيل إنّ أقوال الخلق أقلام الحق، فمن لَهَجَت الأفواه بحبّه وتقديره فكذلك هو، وكذلك الآخر !

من نِعَم الله تعالى على الأُمم أن تنتقل الراية من كابرٍ إلى كابرٍ دون أن يستنكر صوت أو يتمعّر وجه أو يختلف قلب، ومن فضله سبحانه علينا أن يُغيِّب الثرى زعيماً محبوباً ويخلفه زعيم ملهم آخر قد كسب القلوب والعيون والعقول منذ زمن طويل، فتنكسر الأفئدة ولا تنكسر العزائم، وتلين المدامع ولا تلين الطموحات، فالحزن على الراحل فطرة في النفس البشرية، وكلما كان الراحل كبيراً كانت حسرة رحيله كبيرة وفرقاه مريرة، لكن الاغتباط والأمل بالقادم الكبير أيضاً يهوّن وجع الحزن ويفتح للمستقبل بهاء جديداً.

يرحل عنّا «بو سلطان» مأسوفاً على توديعه، ويأتينا «بو خالد» برداً وسلاماً على قلوبنا، أو لنقل بطريقةٍ أوضح وأصوب: يرحل زايد ويأتي زايد، ذات النفس العظيمة، والقلب المحب، و«الخاطر الشَرْح»، والهمّة التي لا تنطفئ، فقد عرف الجميع «بو خالد» حفظه الله تعالى منذ زمن بعيد وليس بجديد عليهم، لذلك لم يكن مستغرباً ذلك الإجماع التام على قيادته لدفّة الدولة وحفاوة الناس به.

أود في هذه العجالة أن أشير لأمر أراه مهماً، وهو أنّ البناء جهدٌ جماعي لا يُستثنى منه أحد من أفراد الشعب، وأنّ دورنا لا يتوقّف عند رسائل المباركة وبيانات البيعة وعهود الولاء، فذلك أمرٌ لم يكن محل شكٍ أصلاً، فحيثما شممنا «ريحة زايد» فنحن بخير ومع أبنائه الكرام بنعمة، ولن تغيّرنا الأيام ولا حوادث الدنيا عن حبّنا لهم ووقوفنا خلفهم، ولكن المطلوب منّا وبصورة لا تقبل «الضبابية» ولا «الاتكالية» بذل أقصى الممكن والسعي لغير الممكن من الجهد من أجل تعزيز مكانة الوطن ورفعته، فكلّنا على ثغر من ثغوره، والإنجازات لا تحققها الكلمات أو القصائد ولكن تأتي جرّاء العمل المضني والعزيمة التي لا تزيدها التحديات والصعوبات إلا توهجاً.

إنّ الـمُنجَز الكبير والمنعطفات التحولية الكبيرة للمجتمعات لا تأتي وليدة حظ و لا تُلقى الأمور كلها على شخص واحد مهما كان عظيماً فقبطان السفينة يحتاج لجهد كل فردٍ عليها، فالإنجازات الكبيرة تأتي بتجمّع تراكمي لِكَمٍّ كبير من الإنجازات الفردية الصغيرة التي تخدم الهدف الكلي والتي يُشكّل مجموعها مؤثّراً كبيراً قادراً على قلب الطاولة وتحقيق طفرة في نهضة البلد ورفع أسهمه.

أُخاطِب نفسي وأخوتي وأخواتي أبناء الشعب بأنّ الأيام القادمة صعبة والتنافس بين الدول مخيف، ومن يبقى في الخلف لن يحصل إلا على الفُتات، والتنافس مع دول النخبة والقادمين الجُدد للصفوف الأولى في المشهد الحضاري العالمي لن يتأتّى بتغريدات تويتر أو برودكاستات الواتساب أو أشعار الأمسيات، فطيلة التاريخ لم تشيّد الكلمات العنترية صرحاً، ولم تحقق مجداً أو ترد عدوّاً، ولكن ما يصنع الفارق دوماً هو العمل الصادق والمضني، ومن يصنع الفارق هو من يُنكر حظّ نفسه في سبيل وطنه ولا يبحث عن شهرة أو «فلاشات» إعلام !

نحتاج أن نرفع مستويات التحدي كأفراد قبل أن نرفعها كمؤسسات، ولننسى أننا أفضل الدول العربية في أغلب المؤشرات، تقول الحكمة «إذا أردتً أن تُصيب القمر، ارمِ النجوم»، لذا لا بد أن نجعل نُصب أعيننا أن تكون المقارنات مع كبار العالم الخمسة أو الستة، لنعرف كم نحتاج أن نضاعف مجهوداتنا «جميعاً دون استثناء» لكي نكون هناك، فحتى لو لم نتفوّق عليهم سنكون قد وصلنا واعتلينا معهم ذات المسرح !

ينطوي نصف قرن من الإنجازات العظيمة ونفتح مع «بو خالد» وإخوانه صفحة مجد مختلفة جديدة، نرفع فيها التحدي والطموح والأهم أن نرفع معها جميعاً حجم الجهد ونوعيته، وأن نستبدل حماسنا على وسائل التواصل الاجتماعي بحماس مشابه في أماكن العمل، فالأفعال دوماً أعلى دويّاً من الأقوال، وإنّ صِدق المحبة للقيادة الرشيدة للبلد يستلزم تفانينا في أعمالنا وإجادة ما نقوم به، فالنجاح المختلف يحتاج جهداً مختلفاً من الكل، أما الاتّكال والاكتفاء بالأقوال فلن يحرّك ساكناً، وكما تقول الحكمة اليابانية القديمة: «دموع الندم في النهايات ستروي مالم تروه بحبّات العَرَق في البدايات» !