ماذا بعد سقوط الأسد؟
كريم فرمان
ما كان أفضل وصف للحالة الجديدة في سوريا ما قاله الناطق باسم الأمن القومي الأمريكي بان اي وضع جديد في...
منذ شهور ووسائل إعلام يمنية مناهضة للحوثيين تتحدث عن قيام شركة اتصالات تابعة للميليشيات المدعومة من إيران بنصب أبراجها في المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية والبدء بتشغيل الجيل الرابع من خدمة الاتصالات والإنترنت وتوزيع الشرائح. ترافق ذلك مع الحديث المتزايد عن الدور الذي لعبته شبكات الاتصالات التي يسيطر عليها الحوثي في اختراق الحكومة الشرعية أمنيا واستخباراتيا، وفي تنفيذ العديد من عمليات الرصد والاغتيالات التي طالت قادة عسكريين وأمنيين في الحكومة المعترف بها دوليا. كما يأتي ذلك في أعقاب تصريحات أطلقها مسؤولون في وزارة الاتصالات التابعة للحكومة الشرعية في عدن تحذر من التعامل مع شركات الاتصالات الحوثية التي تلحق ضررا فادحا على الصعيدين الأمني والاقتصادي بالشرعية اليمنية.
وقبل أيام بثت وحدة مكافحة الإرهاب شريطا مصورا يكشف خفايا اغتيال قائد محور العند العسكري اللواء ثابت جواس نتيجة انفجار سيارة مفخخة شمال عدن، ويظهر التسجيل بكل دقة تحركات الخلية التي نفذت العملية وأشرفت عليها منذ انطلاقها من إحدى المناطق الخاضعة لسيطرة الشرعية في تعز، حتى تنفيذها العملية ضد الضابط البارز الذي ينسب إليه مقتل مؤسس الجماعة الحوثية في حرب صعدة الأولى في العام 2004.
وفيما تبدو هذه النماذج أمورا في غاية الغرابة على الصعيدين السياسي والاقتصادي في ظل معركة يفترض أنها واضحة المعالم والأهداف، إلا أن كثيرا من القضايا والتعقيدات والأحداث في الحرب اليمنية يستعصي تفسيرها حقيقة على المتابعين لهذا المشهد المضطرب، حيث تتداخل المصالح وتتشابك التحالفات وتنوء الملفات بالتساؤلات وعلامات الاستفهام الكبيرة.
وأزعم كمتابع لتفاصيل المشهد اليمني حد الاقتراب أحيانا من بعض الحقائق التي قد تغفل على الراصد غير المتعمق في تفاصيل هذا المشهد وخلفياته، أنني توصلت إلى نتيجة قد تكون منطقية لتفسير كثير مما يحدث من تناقضات عسيرة على التصديق والفهم، أو تندرج في سياق غرائبية الحرب اليمنية إن صح التعبير.
والنتيجة الماثلة أمامي، والتي أزعم أنني تتبعت خيوطها منذ سنوات، هي ما أطلقت عليه مجازا عبر تغريدات ومقالات سابقة “المنطقة الرمادية” التي انبثقت بعد فترة وجيزة من الحرب اليمنية، تحديدا في العام 2017، واتسع نطاقها بعد ذلك ليبلغ مستوى غير مسبوق خلال العامين الأخيرين.
فخلال تلك الأعوام، وتحت ستار الحرب، نشأت ما يمكن أن نسميها بالحاضنات السياسية والاقتصادية والعسكرية داخل المناطق المحررة التي تدعي أنها مع الشرعية وضد الانقلاب، ولكنها ضد التحالف العربي وبقية القوى الوطنية التي تناهض الحوثيين، في تناقض فادح ينم عن مكر سياسي يختبئ عادة تحت ستار السيادة والشعارات الوطنية لتمرير أهداف وأجندات لا تمت للوطن ولا للسيادة بعلاقة.
هذه المناطق الرمادية تحولت من الناحية الأمنية إلى منطلق لعمليات الحوثي داخل الشرعية، منها يتم استهدف القيادات العسكرية والأمنية التي يشعر الحوثي بأنها تشكل خطرا حقيقيا عليه وعلى مصالحه ومستقبله. وفي هذه المناطق تعقد الصفقات التي يتقاسم فيها بعض الفاسدين من المحسوبين على الشرعية المصالح الاقتصادية والمنافع المالية مع الحوثيين. وفيما تأخذ تلك القيادات الفاسدة الفتات، تذهب الفائدة الكبرى لصالح الميليشيات الحوثية التي تحرص على إبقاء يدها الطولى وهيمنتها في مناطق الشرعية على الصعيد الاقتصادي والمالي والنقدي وكل ما يتعلق بالإيرادات المالية مثل الاتصالات والضرائب والجمارك.
والمناطق الرمادية تلك التي نشأت قبل أعوام وأخذت في التمدد على حين غفلة، ليست نتاج اختراق حوثي وتراخ من قبل الشرعية فقط، بل إن الجزء الأكبر والأخطر منها ممول من جهات إقليمية لديها أجندات معادية للتحالف العربي في اليمن تسعى لتصفيتها، ولذلك تستثمر بسخاء في دعم هذه المناطق واستقطاب المزيد من السياسيين والإعلاميين والنافذين للانضمام لهذه البؤر التي يراد منها تذويب الشرعية وحرف مسارها، وتحويل بوصلتها من معاداة المشروع الإيراني في اليمن وامتداداته إلى استهداف المشروع العربي وحلفائه.
وفي هذه المناطق الرمادية يتم إنتاج الخطاب الإعلامي والسياسي المربك الذي يخلط الأوراق، وفيها يتم استغلال نفوذ قادة عسكريين وقبليين لفتح الطرقات والنقاط أمام شحنات الأسلحة المهربة، وفيها كذلك يتم تقريب وجهات النظر بين كل المتنافرين بهدف توحيد جهودهم لخدمة الأجندة الحوثية في نهاية المطاف، حيث يجتمع القيادي السابق في تنظيم القاعدة مع الإخواني المتشدد، وتاجر المخدرات والحراكي التابع لإيران مع القيادي السابق في حزب المؤتمر الذي يعمل ضد قناعاته وأهداف حزبه المعلنة والخفية.
وبالتعمق في مسار هذا الكوكتيل الغريب من الانتهازيين الذين يشكلون قوام المنطقة الرمادية في اليمن، يمكن تفسير الكثير من الأحداث والظواهر والمواقف الخارجة عن منطق العقل السياسي. ومن تلك الظواهر على سبيل المثال التي يصعب تفسيرها والتي كانت مثار جدل ونقاش يمني في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، كيف يتنقل قيادي إخواني مشبوه بين مأرب وصنعاء بكل حرية وأمان فيما يلقى قائد مقاومة مصرعه في عمق مأرب التي يدافع عنها. أو كيف يتحول وكيل وزارة يعمل مع الحوثيين في صنعاء إلى مرشد إعلامي تستقطب مقالاته التي يهاجم فيها الشرعية والتحالف العربي قسما كبيرا من ناشطين وإعلاميين يفترض أنهم ضد الحوثي. أو لماذا يستمر مسؤولون يحملون صفات رسمية في الحكومة الشرعية يعملون ضد أهدافها جهارا نهارا ويتدثرون بمناصبهم الرسمية لتمرير التصريحات والمواقف التي تخدم الحوثي.
والحديث عن المنطقة الرمادية في الحرب اليمنية، ليس ترفا أو أمرا عابرا إذا عرفنا أن هذه المنطقة هي التي لعبت الدور الأكبر والأخطر في سقوط محافظة الجوف اليمنية كبرى محافظات الشمال بعد تحريرها من قبضة الحوثيين، وكادت تودي بمحافظة شبوة لولا تدخل التحالف العربي في الوقت المناسب بعد سقوط أربع مديريات دون طلقة رصاص واحدة.
وخلاصة الأمر أن نشاط هذه المنطقة وصل إلى مستويات خطيرة مؤخرا، مع اتساع رقعة الرماديين التي تهدد بابتلاع الشرعية اليمنية ومكاسبها التي تحققت، في حال لم يكن هناك تدخل حاسم للتعامل مع مناطق المصالح المشتركة ومساحات التلون السياسي التي يتم من خلالها تمرير أجندات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية، المستفيد الأول والأخير منها هو الحوثي وعنوانها التخادم السلبي الذي سيكتب، إذا استمر، نهاية الكفاح اليمني في شكله الحالي ضد أسوأ ميليشيات عرفها التاريخ!