أناشيد..

عصافير الفنان اللبناني عيسى حلوم تطير بالعيون

لوحة "العصافير البرية" إحالة إلى ما هو أبعد من مشهد طبيعي

واشنطن

غالبا ما يكون عمل فني واحد لأحد الفنانين مفتاحا لسائر أعماله الفنية، أو على الأقل دعوة مفتوحة للدخول إلى عالمه الفني الواسع، حيث تسطع لوحات وتبهت أخرى ليظل الانطباع العام نديا وباثا للفرح الهشّ أو التفكّر في أمور الكون والحياة الأرضية.

هكذا هو الحال مع الفنان التشكيلي اللبناني عيسى حلوم الذي لم يتخل يوما عن الرسم والتلوين بالألوان الزيتية، رغم تحوّل الكثير من الفنانين نحو مادة الأكريليك “الأكثر عصرية”.

وقد نشر على صفحته الفيسبوكية، التي باتت عند عدد كبير من الفنانين اللبنانيين منصة بديلة، ولو مؤقتة عن الصالات الفنية ريثما تستقيم الأمور لناحية الأزمة الاقتصادية المستشرية وانتشار وباء كورونا. نشر حلوم صورة عن عمل فني وأرفقه بثلاث صور لتفاصيل من اللوحة. لوحة استدعتنا للدخول بعد انقطاع إلى عالمه التعبيري الملوّن.

حميمية بصرية

على الرغم من أن للفنان أعمالا جميلة كثيرة تُبعد الناظر إليها عن همومه اليومية والوطنية، فقد خفّت في السنوات القليلة الأخيرة قوة الالتفاتة إلى أعماله أمام صراخ العالم وتخمة عالم التشكيل بأقصى اللوحات وأشدّها قدرة على التعبير عن الواقع المأساوي الراهن بفنية عالية، لا لبس فيها.

وأخيرا جاءت لوحة العصافير البرية لتطل علينا، من على صفحة حلوم الفيسبوكية، متميّزة عن سائر ما قدّمه سابقا، إذ جمعت ما بين التعبيرية اللونية المعهودة عنده والمشغولة غالبا بترجمة حميمية وبصرية للمشاهد الطبيعية التي يراها و”يعيشها” الفنان، والقدرة على الإحالة إلى ما هو أبعد من مشهد طبيعي.

يحار الناظر إن كان فضاؤها عبارة عن تصدعات ذات مزاج لوني واحد يتدرّج من اللون البني وصولا إلى أفتح درجة من اللون الأصفر، أو كان ما تقف عليه العصافير هي أسلاك رفيعة وضعها إنسان ما، فاخترقت فضاء اللوحة.

وقد يحلو لنا أن نرى في هذه اللوحة أن السماء هي مساحة مُتصدّعة حملت إليها الريح أغصانا دقيقة من أشجار مجاورة أبت أن تهوي أرضا قبل أن يحفظها حلوم مُعلّقة في لوحته.

وقد يتساءل البعض منا حول هذه الريح إن كانت خريفية (أغصان أشجار عارية) أو ربيعية (الأصفر الصباحي/ المشرق الحاضر بقوة) أو هي من الاثنين معا في جوار عصافير لا هي ربيعية ولا خريفية بل عصافير الأزمنة كلها.

أما العصافير فهي حالة فنية في حد ذاتها، وهي ترجمة بصرية حرفية لما قاله الفنان يوما “إذا ما رأيت شيئا في الطبيعة أتفاعل معه بسرعة، وأحوّله إلى طاقة لونية، مثل انعكاس ضوء الشمس في لحظة معينة على جانب ما من الطبيعة.. أعتقد أن الإحساس بالارتياح من قبل المتلقي أمام لوحة أو عمل أنجزته بهذا الارتياح النفسي يكون له مدلول قويّ على أنني نقلت الإحساس”.

ويضيف “أعتقد أنه ليس من المهم دائما أن يبحث الفنان عن شيء جديد. لكن المهم للإنسان أن يبحث عن ذاته”.

مجتمع العصافير

عصافير حلوم، رغم أنها تأتي في شكل طاغ في جميع لوحاته تقريبا بلون واحد وبحجم واحد، لكن كل واحد منها يمتلك تعبيرا وإحساسا مُختلفين ينقلهما إلينا. فهي كمثل الفنان لا تشير إلى “شيء جديد” بل هي حالات ذاتية مُختلفة.

أما إذا نظرنا إلى اللوحة بشكل عام يلفت نظرنا تشكيل الأغصان/ الأسلاك (أو الاثنين معا) وتشابكها، لاسيما في القسم الأسفل من اللوحة حيث تتبدّى إلينا كشكل عشّ ضخم تملكه ويحضنه “مجتمع” من العصافير يخفّف من قلقها وتنبّر ريشها لكونها ليست وحدها في هذه الطبيعة أمام ما يُمكن أن يقلق من راحتها وراحة ما هو نائم في العش.

وننطلق من هذه اللوحة فضوليا إلى عالم الفنان الملوّن بكل ألوان الفصول. مشاهد طبيعية عندما تتوحّش ألوانها تذكّر بصيف البقاع وشمسه الذهبية الساطعة والحارقة. مشاهد تليق بتلك العصافير حتى حينما لا تحضر في لوحاته إلّا من خلال “نفسها” حيث يستطيع حلوم أن يتلقّفها ويستحضرها في لوحاته.

مشاهد لم يكفّ الفنان يوما عن رسمها أو تلوينها وهي تبدو ألوانا قد اتّخذت أشكالا تعبيرية حينا، وتجريدية في أحيان أخرى، وقد قال الفنان في هذا السياق “أنا ملوّن ولست رساما، أكترث بالتلوين أضعافا ممّا أكترث بالرسم”. وقد حقّ قوله هذا في جميع لوحاته، القديمة منها والجديدة.

عيسى حلوم، من مواليد البقاع في بلدة العين، تحديدا، وقد عاش فيها معظم أيام حياته. وعن هذه المنطقة الخضراء من لبنان قال الفنان في العديد من المناسبات “أعيش في بيئة طبيعية جدا حتى الآن في لبنان، فيها الحقول والمزارعون والمواشي، ولأني أراها كل يوم فطبيعي أن أتفاعل معها”.

غادر حلوم بلدته إلى بيروت ليتلقى دراسته في الفن ومن ثمة إلى إيطاليا ليكمل تعليمه. ثم عاد إليها لينهل من مشاهدها التي لا تنضب المزيد من اللوحات، ويعلّل عدم كلله من تلك المشاهد بهذه الكلمات “كل لوحة تتولّد من حالة قلق أو انشغال ذهني وحسي بموضوع بصري وتشكيلي ما، وخلال العمل يظل السؤال يحركني يوميا هل انتهت اللوحة أم لا تزال هناك احتمالات لإضافة لون ما، أو لمسة أو عنصر تشكيلي ما، ثم تمتد هذه الأسئلة من اللوحة إلى أعمال أخرى أرى أنها يمكن أن تحقّق فكرة حسية أو لونية فكّرت فيها خلال عملي في اللوحة السابقة وهكذا..”.

شارك الفنان في العديد من المعارض الجماعية، وله ثلاثون معرضا فرديا، وآخر معرض له كان السنة الماضية في الدوحة في غاليري “المرخية” وحمل عنوان “أنغام الفصول”.