الملف السوداني

السودان يستعيد دوره كعنصر وازن في مفاوضات سد النهضة

محمد أبو الفضل

الخرطوم تعدّل بوصلتها نحو فكرة تعظيم المكاسب للجميع ودعم المشروعات التنموية المشتركة.

كشفت جولة المفاوضات بشأن سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان، التي اختتمت الثلاثاء في القاهرة، أن الخرطوم أخذت تستعيد دورها كعنصر وازن في المحادثات، بعد أن بدا مرتبكا خلال الفترة الماضية. فإذا مالت نحو أديس أبابا كان سيقال إن الحكومة التي جاءت بعد سقوط نظام الرئيس عمر حسن البشير، تتبنى مواقفه، وتعيد تكرار انحيازه، وإذا مالت ناحية مصر سيتردد أنها رضخت لضغوط قوية من قبلها.

في الحالتين، تاه الحديث عن مصلحة السودان نفسه. وظهر كأن مشروع سد النهضة لا يعنيه من قريب أو بعيد، ويرفض تبني رؤية يدافع بها عن حقوقه، ويحدد حجم المكاسب والخسائر، وهو ما جعل موقف الخرطوم يبدو غائما في الجولات التي عقدت في الفترة الماضية، وتتعرض لانتقادات تحضها على الصراحة وتقديم طرح يعكس قدرتها على معرفة أين تضع قدميها.

مع الجولة الأولى في 16 نوفمبر بالخرطوم، ضمن الجولات الأربع التي حددها اجتماع عقد في واشنطن مع وفود الدول الثلاث في 6 نوفمبر الماضي، بدأ صوت السودان يعلو نسبيا، ويحوي إشارات تفيد بأنه طرف أساسي في المحادثات، ويعبر عن رأيه في ما يخص القضايا الخلافية.

 

عبدالله عبدالسلام: انحسار تدفق مياه النيل الأزرق يهدد الزراعة في السودان
عبدالله عبدالسلام: انحسار تدفق مياه النيل الأزرق يهدد الزراعة في السودان

 

ومع انعقاد الجولة الثانية في القاهرة يومي الاثنين والثلاثاء، زاد الانهماك السوداني. وعبر عن رأيه في بعض الجوانب الدقيقة. ومرجح أن يصبح أكثر تفاعلا عند حلول موعد الجولة الرابعة في واشنطن منتصف يناير المقبل، وهي الجولة التي تحسم مصير الوساطة، وعلى إثرها يتم التعرف على الدروب التي سيمضي فيها سد النهضة، ومدى ما تحقّقه من فوائد، فالقضية ابتعدت عن النصر أو الهزيمة، وتقترب من تحقيق شعار الانتصار للجميع.

كانت جولة واشنطن الأولى في 6 نوفمبر، أقرت حضور الولايات المتحدة والبنك الدولي الجولات الأربع للمفاوضات كمراقبَين. وأشارت إلى الاستعانة بهما كوسيطين عند الفشل في التوصل إلى اتفاق نهائي حول سد النهضة الإثيوبي ما منح المحادثات زخما، جعل الأطراف الثلاثة أكثر حرصا على التفاهم حول الآلية التي تساعد على استكمال المشروع دون منغصات بين الدول المعنية به.

مر الموقف السوداني من سد النهضة بثلاث مراحل رئيسية. الأولى عرفت دعم رؤية إثيوبيا خلال فترة حكم عمر البشير، وتصويره (السد) على أنه يحمل الخير الكثير للخرطوم. وجرى الترويج لمعلومات تعزز هذا التقدير. والثانية اتسمت بانعدام الوزن، وعدم تبني موقف يغضب ويصدم أديس أبابا، أو يثير حنق ومخاوف مصر. وفي الثالثة انخراط وتقديم مقاربات نافعة، تساعد السودان في الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع الطرفين الآخرين، وتؤكد أن الحكومة الجديدة لن تفرط في مصالح السودان.

خياران لحل المشاكل

اقترح ياسر عباس، وزير الري السوداني، على هامش اجتماعات القاهرة، خيارين لحل المشاكل العالقة، أحدهما الاستمرار في المحادثات والبناء على ما تم في جولة أديس أبابا الماضية، مع ضبط اللغة والصياغات المستخدمة كي تصبح نقاط الخلاف والاتفاق أشد وضوحا، في إشارة لتلاشي التفسيرات المتضاربة. ويقترح الخيار الآخر التركيز على قضيتين أو ثلاث، مثل التشغيل طويل الأمد، وكمية المياه المتدفقة، ومتى تبدأ عملية ملء السد، وهي رؤية عملية تحاول ضبط المسارات وتجنب العودة إلى متاهة المفاوضات الطويلة.

ربما تكون هذه الإشارة هي الثانية التي تصدر عن وزير الري السوداني، فعقب انتهاء الجولة السابقة في أديس أبابا، تحدث الرجل عن توافق كبير حول سنوات الملء، ولفت إلى أنه جرى التفاهم على أن تكون مدة سبعة أعوام هي المناسبة، وفي جولة القاهرة تحدث عن خيارات محددة يمكن تبنيها لتسهيل المفاوضات قبل الوصول إلى محطة واشنطن، والدخول في تفاصيل وساطة لا ترتاح لها كثيرا أديس أبابا.

 

 

انحسار تدفق مياه النيل الأزرق يهدد مصالح الخرطوم

 

جاء التطور السوداني متّسقا مع عدد من التطورات، أبرزها أن المفاوضات دخلت مرحلة حاسمة ومن الضروري أن تصل إلى غايتها وهي الاتفاق، لتفادي شبح سيناريوهات أخرى غامضة. وعلى الحكومة أن تعرف ماذا تريد، وكيف تصل إلى ما تريد، لأن المراوحة لم تعد مقبولة، وقد تكبدها خسائر كبيرة بالنسبة لعلاقتها مع كل من مصر وإثيوبيا، وترسّخ قناعات بأن الأزمة منحصرة بين هاتين الدولتين، والسودان خارجها أو غير معني بها، مع أنه دولة المصب الثانية، وسوف تتأثر إيجابا أو سلبا بعد تشييد سد النهضة.

كما أن تشكيل السلطة الانتقالية في السودان، المفترض أن يوحي بانتهاء فترة التوتر السياسي، ويؤكد أن الخرطوم اختارت طريقا يبعدها عن الطرق المجهولة التي سلكتها إبان عهد البشير، وأنها تدير علاقاتها الخارجية بما يخدم المصالح الوطنية وتبتعد عن العقائدية.

منذ البداية خيم ملف سد النهضة على سماء الحكم الجديد، ونظر البعض إلى موقفه من هذا المشروع على أنه بوصلة يمكن بها التعرف على كثير من ملامح التوجهات السياسية الإقليمية، الأمر الذي مثل عبئا ثقيلا، لأنه وضع الحكم الجديد في السودان داخل قالب مع أو ضد، من دون هامش للتعرف على أن هناك ألوانا أخرى بعيدة عن هذه الصيغة القلقة. وهي معادلة باتت موجودة في كثير من التفاعلات الإقليمية والدولية، فما بالنا بنظام لا يزال يتلمس خطواته الأولى نحو الاستقرار، ويريد أن يحتفظ بشكل متوزان من العلاقات، ولا يدفع فواتير أو أخطاء نظام سابق، ويقدم نفسه للعالم على أنه ركيزة للسلام في المنطقة.

قد تكون هذه واحدة من الزوايا التي ضغطت على الخرطوم، ووضعت الحكومة في شكل من يرفض تبنّي موقف واضح من سد النهضة، وأدت إلى تضارب التوقعات حيال المربع الذي اختارته، ولم يظهر في مجمله لأي درجة هي مهمومة بانعكاسات المشروع على مصالح السودان، والأخطر أن الحكومة بدت في نظر قطاع من المواطنين كأنها مسلوبة الإرادة.

 

 
الحكومة الجديدة لن تفرط في مصالح السودان

 

تنامت حصيلة الاتهامات، ونالت السلطة الانتقالية جانبا كبيرا منها، ففي الوقت الذي تصاعد فيه سقف التفاؤل وأن البلاد دخلت عصرا جديدا، ارتفع معدل الغموض (الخلاق) ودخل مرحلة تهدد كبرياء حكومة لا تزال تبحث عن السلام وتمكينها من السيطرة على مقاليد أمور كثيرة مفككة، وتحول سد النهضة إلى وسيلة لاستشفاف عمق التغير في السودان، لأن شريحة كبيرة من تيارات مختلفة تحدثت عن مخاطر قد يأتي بها هذا المشروع، بينما لم يعتد الناس هذا النوع من الخطابات، بعد أن خضعوا لرؤية بشّرتهم بفوائد عظيمة من وراء سد النهضة.

وأوضح عبدالله عبدالسلام، وزير الزراعة السوداني السابق، في تصريح لـ “العرب”، أن انحسار تدفق مياه النيل الأزرق يهدد مصالح الخرطوم التي تعتمد عليه في زراعة الأراضي الواقعة في جنوب وشرق السودان.

وأشار إلى أن القضية صعبة بالنسبة للسودان، لأنه لا يملك خزانا مائيا كبيرا يعتمد عليه في فترات الجفاف، بينما مصر تمتلك بحيرة ناصر وخزان أسوان، يمكنانها من تعويض فترة ملء خزان سد النهضة، وتعويض النقص المتوقع، مطالبا بالتوصل إلى اتفاق حاسم يحمي مصالح الدول الثلاث مستقبلا، عند بناء إثيوبيا لأي سد لاحقا على النيل الأزرق.

أمر واقع

كشفت جولة القاهرة، وقبلها أديس أبابا، بين الدول الثلاث عن رغبة حثيثة للتفاهم، وتجنب التداعيات السلبية لسد النهضة على كل من مصر والسودان، وفتحتا الطريق أمام مناقشة المحاور بمزيد من الشفافية والوضوح، وقطعتا فكرة القبول بالسد بحكم الأمر الواقع، أو الرضوخ للضوابط التي وضعتها إثيوبيا دون اعتبار لموقف دولتي المصب.

إذا كان سد النهضة لا خلاف عليه كمشروع حيوي للدولة الإثيوبية، فإن التفاصيل من الممكن إيجاد صيغة للالتفاف حول جوانبها الإيجابية، طالما أن المبدأ يقوم على تعزيز التعاون الإقليمي بما يتخطى الدول الثلاث. وهي الخطة التي تعزز فكرة تعظيم مكاسب الجميع، ودعم المشروعات التنموية المشتركة. ويمكن أن يكون السودان، بجانب آخرين، عنصرا وازنا في أزمة سدّ النهضة وغيرها من الأزمات في المنطقة.