تفكيك التعقيدات الاقتصادية يمنح الرئيس المنتخب مرونة سياسية
تحديات ما بعد الانتخابات المصرية أصعب ممّا قبلها
مصر تستطيع أن تتجاوز آثار الانتخابات وتجد مخارج لأيّ تجاوزات قد تحصل، لكن السؤال الصعب أمامها يتعلق بعيوب الاقتصاد التي لا تقدر أيّ إجراءات ظرفية أن تحسنها وتسد الثغرات الظاهرة فيه، وهو يحتاج إلى مقاربات وسياسيات بعيدة المدى.

الحماس للانتخابات لا يغطي على أزمة الاقتصاد
تستعد مصر لإجراء انتخابات رئاسية خلال الأسابيع المقبلة وسط تباين التقديرات حول موعدها ومستوى النزاهة التي سوف تتمتع بها، ما جعل مراقبين يعتقدون أنها الأصعب منذ تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي السلطة للمرة الأولى منذ حوالي عشرة أعوام، ففي المرة الأولى اجتازها بتفوق لافت على المخضرم حمدين صباحي، وفي الثانية كان الأمر سهلا لأن المنافس لم يكن يتمتع بحضور سياسي واضح.
في هذه المرة، وهي الثالثة للسيسي، تنتاب أجهزة الدولة حيرة في الطريقة التي سوف تتم بها والمتوقع إجراؤها في ديسمبر المقبل وربما في شهر نوفمبر، وستعلن اللجنة العليا للانتخابات التوقيتات الزمنية تفصيلا غدا الاثنين.
تأتي الحيرة أيضا من المناخ العام في مصر الذي تسيطر عليه معالم أزمة اقتصادية محتدمة بدأت تصطحب معها ظواهر اجتماعية مقلقة، ويمكن أن تتسبب في إزعاجات سياسية إذا قررت الحكومة تلبية حزمة جديدة من برنامج صندوق النقد الدولي قريبا، في مقدمتها الموافقة على تحرير تام لسعر صرف الجنيه المصري.
وتستطيع الحكومة تجاوز تحديات ما قبل الانتخابات بالمواءمات السياسية مع قوى المعارضة ومنحها مساحة أكبر للحركة من خلال توفير قدر جيد من الضمانات للسماح لها بالمنافسة الجادة في الانتخابات الرئاسية، وبقليل من الممارسات التقشفية والزيادات العينية في مرتبات الموظفين وبرامج الحماية الاجتماعية.
لدى الحكومة حتى الآن مفاتيح تجعلها تتحكم في حركة غالبية الملفات السابقة، صعودا أو هبوطا، وتمتلك من المرونة ما يساعدها على تخطّي مرحلة ما قبل الانتخابات بكل صعوبتها وترك باب المنافسة حرا مع ضمانات كبيرة للنزاهة والشفافية، فالرئيس السيسي لا يزال يتمتع بشعبية تمكنه من التفوق على أقرب منافسيه شراسة حتى الآن، وهو رئيس تيار حزب الكرامة السابق أحمد الطنطاوي.
لم تعد أجهزة الدولة في مصر معنية كثيرا بحصول السيسي على نسبة أصوات عالية، كما حدث في المرتين السابقتين، فالعالم لا يستسيغ التفوق الانتخابي الكاسح، والذي يجعل دوائر متباينة تشك فيه، كما أن فكرة إلغاء المنافسة في الانتخابات مكروهة، وتحمل ظنونا سيئة في المرشح الفائز، وأن انتخابه شابته عيوب، فيبدو تفوقا منقوصا.
مع كل ذلك، تبقى تحديات ما قبل الانتخابات المصرية أقل صعوبة من المرحلة التالية لها، فالرئيس الفائز، ووفقا لمعطيات متعددة هو السيسي، سوف يكون مطالبا بإيجاد آليات تمكنه من الحكم بارتياح لمدة ست سنوات، من المنتظر أن تزداد فيها الأزمة الاقتصادية وعورة، وتطفو معها بعض الأمراض الاجتماعية على السطح، ربما تتزامن معها حوادث عنف تقلل من ميزتي الأمن والاستقرار اللذين نجح السيسي والمؤسسة العسكرية والجهاز الشرطي في توفيرهما خلال فترتيه السابقتين.
أضف إلى ذلك أن القوى السياسية المعارضة الهشة يمكن أن تستفيد من تجربة الانتخابات، خاصة إذا توافرت لها مساحة مقبولة من الحركة في الشارع، ومهما كانت النتيجة التي يحرزها مرشح أو أكثر للمعارضة، سلبا أو إيجابا، قد تصبح مقدمة لخروج عناصرها من القمقم الذي عاشت فيه طوال السنوات الماضية.
تسلّط انتخابات الرئاسة القادمة الأضواء السياسية على مصر، وبعيدا عن الضوابط التي وضعتها اللجنة العليا للانتخابات للممارسات الإعلامية، فإنها لن تتمكن من التحكم فيها تماما، لأن وسائل الإعلام لا تعتمد حاليا على التواجد المباشر في مكان الحدث، فهاتف جوال صغير واحد بحجم الكف يمكن أن ينقل صورا مهمة.
تنظر دوائر خارجية إلى انتخابات الرئاسة في مصر على أنها اختبار لجدية النظام الحاكم في مجال الإصلاحات السياسية التي أعلن عنها، واختبار لإيجابيات الحوار الوطني الذي عقد عشرات الجلسات بين الحكومة والمعارضة، وأشاد به الطرفان، ما يعني أن اليوم التالي لإعلان نتائج الانتخابات إما أن يصبح إضافة نوعية لنظام الرئيس السيسي أو نقمة إذا حدثت تجاوزات فاضحة في العملية الانتخابية وشابتها انتهاكات يصعب تبريرها سياسيا.
لذلك فاستعدادات النظام المصري لمرحلة ما بعد الانتخابات تفوق ما قبلها، فالمشكلة في الثانية محدداتها معروفة تقريبا ويمكن لأجهزة الدولة تخطيها كلما تحلت بالمرونة، بينما مرحلة ما بعد الانتخابات بها جزء كبير لن يستطيع أحد التحكم فيه كليا.
يتوقف ذلك على مدى القدرة على تخفيف الأعباء الاقتصادية التي تثقل كاهل شريحة كبيرة من المواطنين، فإذا افترضنا أن الوضع السياسي يمكن التعامل معه بشيء من الانفتاح في الفضاء العام والليونة في الموقف من ملفات سجناء الرأي والحريات والإفراج عن المزيد من المعتقلين، فإن تجاوز الأزمات المعيشية هو الذي يرسم ملامح المستقبل في السنوات الست المقبلة للرئيس الفائز في الانتخابات.
كل العيوب التي تشوب العملية السياسية يمكن أن تجد لها الدولة المصرية مخارج ومسكّنات تساعدها على سد ثغراتها المؤلمة، غير أن عيوب الاقتصاد لا تصلح معها هذه النوعية من التصوّرات، إذ تحتاج إلى علاجات عملية بعيدة عن المراوغات والمناورات، لأن جزءا منها يتعلق بإدارة الحكومة للاقتصاد، والجزء الآخر في أيدي جهات خارجية، مثل صندوق النقد الدولي والمؤسسات التي تقدم منحا مشروطة.
ناهيك عن المنهج الرسمي في خصخصة بعض الشركات التابعة للدولة وتواجه عقبات بالجملة حالت دون إتمام الكثير من عمليات البيع التي جرى الاتفاق عليها سلفا، وهذه واحدة من التحديات الكبرى التي على الرئيس المنتخب التغلب عليها سريعا، لأنها تتعلق باقتصاد الجيش الذي تزايد الفترة الماضية، وربما تكون الدوافع منطقية بعد ثورة عارمة على نظام الإخوان وهيمنة الجماعة على بعض مفاتيح الاقتصاد.
وبعد تجاوز مخلفات هذه المرحلة ومراراتها الأمنية، أصبح توسع الجيش في الاقتصاد عقبة في العلاقة مع صندوق النقد، والقطاع الخاص، المصري والأجنبي، الراغب في استثمار الفورة الاقتصادية الجديدة وتوفير فرصة تنافسية متساوية للجميع.
يحتاج بيع بعض الشركات والمؤسسات التابعة للدولة، والذي أعلنت عنه الحكومة أكثر من مرة، توفير ظروف تشجع المستثمرين على الشراء وزيادة رأس المال، فالمناخ الاقتصادي في مصر يستوعب المشروعات الواعدة عقب تطوير البنية التحتية وتنفيذ مشروعات تنموية عملاقة، لا ينقصها سوى المزيد من التسهيلات وإدارة تتمتع بدرجة عالية من الكفاءة الاقتصادية، فالبنية الأساسية التي تم وضعها لن يستفاد منها بالصورة المثلى إلا إذا توافرت للاقتصاد ديناميكية تسمح له بالتطور.
يبدو هذا العامل من أكثر تحديات مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية صعوبة، لأن تداخلاته واسعة، وشبكة المصالح فيه ممتدة، والإجراءات المطلوب القيام بها حرجة أحيانا، علاوة على البيروقراطية المصرية المتجذرة ويمكنها أن تفرمل أيّ توجه حقيقي نحو معالجة مشكلات وتشوهات مزمنة.