نقمة شماليّة مرتقبة: "دار الفتوى" بين الإصلاح أو إضعاف الدور

"أرشيفية"
نتيجة بطعم الفجيعة، هي خسارة المرشحين الثلاث: "القاضي الشرعي الشيخ وسيم فلاح وعضو المجلس الشرعي السابق الأمير محمّد زهير دندن والمحامي حسن كشلي" للانتخابات عن عضوية "المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى" في لبنان الأحد الماضي. قضاة عدليّون وشورى وشرعيّون، حاولوا فرض التغيير ديمقراطيًا ونجحوا بكسر الآحادية المعهودة... إلا أن تعيينات المفتي الثمانية الأول من أمس، وإقصاء كل من يبرز تشريعيًا -أو قانونيًا- والنكث بوعد تعيين سمير الجسر فيها، جاءت لتقول بطريقة غير مباشرة "بيروت أعلى شأنًا من طرابلس ولن نسمح بتعددية التوجهات السياسية التي تطمحون إليها".
وفي ضوء اعتبار طرابلس عاصمة الإفتاء الثانية في الأحكام والقوانين التي تنظم عمل المجلس الشرعي، فإن هذا الغياب يُعد ضربة قاضية بالنظر إلى الدور الرقابي البارز الذي كان من الممكن أن يلعبه الوزير الجسر كشخصية قانونية وازنة ومواجِهة للمخالفات الجسيمة التي يُذاع حدوثها مؤخرًا
محاولة إصلاح.. أفشلتها التعيينات
بدا واضحًا، ومنذ اللحظة الأولى التي اندلعت فيها عملية الاقتراع على قيادة نظام مجلس جديد متعدد الأقطاب، أن الانتخابات الأخيرة لم تكن كسابقاتها بخاصة في بيروت، وأن كفّة الأصوات ميّالة للخرق. معادلة مالت لتشطيب ثلاثي "فلاح-دندن-كشلي" المقرّبين من المفتي عبداللطيف دريان ورئيس المحاكم الشرعية الشيخ محمد عسّاف، بحيث تم الاتفاق على ترك أمر الانتخابات شورى بين الناخبين على أن يتم تعيين مجموعة من الإصلاحيين ومنهم وتوزيع الأصوات بين أربع:
1- القاضي الشرعي الشيخ عبد العزيز الشافعي (55 صوتًا) وشعاره "تهميش العقل التسووي وتغليب العقل القانوني". وهو المؤمن بجدوى التغيير من أعلى السلّم.
2- المستشار الديني لرئاسة الحكومة الشيخ فؤاد زرّاد (57 صوتًا)، وشعاره "النقاش ثم المواجهة". وهو المعروف بمعارضته لأداء المفتي في كثير من الملفات خلال ولاية المجلس الشرعي السّابق.
3- رئيس "جمعيّة متخرّجي جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت" مازن شربجي (67 صوتًا) وشعاره "تصحيح المسار" والعودة إلى الجذور. وهو ما اعتبره البعض نموذجًا أفضل من رئيس المقاصد فيصل سنو الذي كان في الآونة الأخيرة غير مرضي عنه من الأوساط السنية، لقرارات اتخذها في مدارس وثانويات المقاصد ولتسويقه فكرة التمديد للمفتي.
4- ممثل "الجماعة الإسلامية" عبد الحميد التقي (69 صوتًا)، وشعاره الاعتدال والقرب من الفئة الشبابية الطامحة لأداء أفضل.
وفي التفاصيل، كاد القاضي الشافعي الفوز، لولا الأصوات التي كانت له واعتبرت مُلغاة، لخطأ مطبعي فيها، فخسر إلى صوتين فقط. مع العلم، أنه روّج لقبول الشيخ زياد الصاحب في حلف المشايخ تحت شعار عدم عزل "الفتوة" (وهي جمعية إسلامية). الأمر الذي لم يتقبّله عدد من المشايخ لتواجد الصاحب بين فريق التمديد للمفتي، ما أدى إلى تشطيبه والتصويت للمرشح عبدالله شاهين (58 صوتًا)، المقرّب من المفتي، مكانه.
وللأسف، بعد أن غيّب الإصلاح "انتخابات الصورة"، وماتت معادلة "زي ما هيّ" الشهيرة، عن عمر ناهز 18 عاماً. وبعد مسيرة طويلة من الصيغ التوافقية، شابتها تحوّلات فكرية وسياسية، ودخول المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في مرحلة التغيير والتعددية... أتت تعيينات المفتي بعدها لتعتبر أن مفهوم التعددية في المجلس الشرعي بحدّ ذاته ترفاً، مع أنها في الحقيقة حاجة مركزية لتحرير دار الإفتاء من الآحادية التي أنهكت سنّة لبنان.
فانتقى المفتي من "المستقبليين" من والاه في مسألة التمديد وأصرّوا على تعديل المرسوم الاشتراعي رقم 18 وابتكار مُخالفة قانونية تفضي بإقصاء رؤساء الحكومة الـ6 عن نصاب الجلسة تحت شعار مزعوم مفاده أن "من أراد الطعن في مجلس شورى الدولة فسيُردّ طعنه بذريعة عدم الصفة وعدم المصلحة العامة"
من زعامة المستقبل إلى زعامة شخصية؟
انتهت الانتخابات إلى التأكيد بأن القدرة التجييرية للمفتي لا تتعدى الـ50 صوتًا، وأن التغيير الذي شهدته الطائفة السنية على المستوى النيابي امتد وتوسّع إلى دار الإفتاء، فتوزعت الأصوات بالعدل ولم يكن هناك لا غالب ولا مغلوب، حتى ولو خسرت رهانات البعض، وخرق من لم يكن يراد له أن يخترق اللائحة التوافقية.
يبقى ضرورة القول إن من غير المفيد التعويل كثيراً على مثل هذه المواقف غير المسبوقة التي آلت إلى اعتبار "الطقم القديم" أن زعامة المستقبل ستُستبدل بزعامة شخصانية للمفتي ولرئيس المحاكم الشرعية السنية الشيخ محمد عساف، تُهمّش الإصلاحيين.
ولا من الضرورة أخذ مسألة استبعاد الشخصيات القانونية والقوية من المعادلة من دون تحفّظ، بل اعتبارها نقطة يجب التصدّي لها في مجرى الصراع الطويل. لأن تعيين رئيس المحكمة الشرعية السنية العليا، مقابل الشيخ محمد محمد طارق إمام مفتي عن طرابلس يطرح معضلة مهمة جدّا، بالأخص بعد استبعاد الوزير السابق سمير الجسر، فهو استبعاد نخبوي من حيث التخصص لمرحلة مرجوة من الشفافية والديمقراطية والمشاركة الفعلية لكل الطائفة السنية على اختلاف توازناتها السياسية.
وعلى حيائه المفرط، إلا أن المفتي دريان لا يستطيع استبعاد المفتي محمد إمام من موقع نيابة الرئيس، لمصلحة القاضي الشيخ محمد عساف على اعتبار أن حق طرابلس كعاصمة ثانية للبنان والوزازنة سُنيا ستفتعل ثورة ضد المفتي في حال مس بنصيبهم أو مركزهم في نيابة رئاسة الإفتاء المخصصة لهم عُرفًا.
معادلة مرفوضة
مقابل السؤالين الأكثر تداولاً وإلحاحاً في هذه الأيام الساخنة، وهما ما السبب خلف استبعاد الوزير السابق سمير الجسر عن قائمة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، الذي تم تشكيله بموجب التعيينات الجديدة لمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، بكل هذا التكتيك والمهنية؟ ثم ما هو مصير البيت الشمالي للشرعية، بعد نبذهم وقطع الطريق عليهم بهذه البساطة؟
كان لابد للمتفاجئين من الشخصيات الشمالية والأوساط السّنية أن يرفضوا تهميشهم. وبالتالي، وبحسب مصادر مطلعة لـ"جسور"، أثيرت تساؤلات كبيرة عند رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي نقل بدوره النقمة الشمالية المرتقبة إلى المفتي، وأبلغه بأن مشايخ الشمال متوجهون نحو "الاستقالة الجماعية" في حال تم الاعتبار بأن "أعلى منصب رسمي بعد المفتي هو منصب القاضي عسّاف بين مفتيي المناطق، وبالتالي اعتباره نائبًا للرئيس عوضًا عن مفتي طرابلس الشيخ محمد إمام".
وفيما يخوض مشايخ لبنان، لا الشمال فحسب، معركة الاعتدال والإصلاح المنشود في المؤسسة العريقة والصرح السنّي الأساس، خوف فعليّ من مواجهة السؤال الذي يخاف الأكثرية طرحه. ألا وهو "من ينوب عن المفتي دريان في حال غيابه لأي سبب من الأسباب، صحّية جسديّة كانت أم غير ذلك؟"
ويقول أحد القضاة الشرعيين لـ"جسور" إنه "على كل الحريصين على المرجعية، الإجابة بشفافية عن هذا السؤال، ولو من باب فضّ جانبًا من التباسات واقعة اقصاء الشخصيات القانونية القوية الوازنة، التي تعادل في قوّتها ما يواجه السّنة في لبنان من تحديات على صعيد التصدي سياسيًا لعملية محاولة إخضاعهم لفريق الممانعة، إما مباشرة، أو إضعافًا للوجود السني العروبي بشكل غير مباشر"
ومع كل ذلك، إن تعيين مفتي طرابلس الشيخ محمد إمام نائبًا للرئيس، ليس حلّا إصلاحيًا، وهو النقاش الذي يستأثر اليوم، بجلّ التعليقات المتراوحة بين القراءات المتواضعة للحلول المطروحة ووجهات النظر المسبقة، وبين المرافعات الدفاعية المتهافتة عن ضرورة رصّ الصفوف على نحو لا يقتل النقاش بل يتوصّل إلى حلّ إصلاحي "يتصدى للفساد" بخاصة بعد إعلان مناورة جديدة، لتثبيت اجتماع التمديد لمفتي لبنان، يتم الإعداد لها لتكون نهار السبت القادم في السابع من تشرين الأول/أوكتوبر للمصادقة على ما جاء في الجلسة الأخيرة للمجلس الشرعي السابق من تمديد، والذي لم يُصغ كقرار ولم يُنشر في الجريدة الرسمية حتى الساعة ولم يُوثّق في محضر كي لا يُفتح باب الطعن به أمام مجلس شورى الدولة.