إسرائيل تتحمل مسؤولية "طوفان الأقصى"

"أرشيفية"

فرنسا

لا يمكن النظر إلى ما يجري في قطاع غزة وغلافه من منظور قصير، بل يجب النظر على المستوى البعيد وفقا للنتائج السياسية المترتبة عن الواقع العسكري على أرض الميدان. فالحرب تُشن من أجل أهداف سياسية.

لا بد أيضًا من قراءة الحاصل ـ الذي يدفعه ثمنه غاليا الشعب الفلسطيني ـ من منظورين: أحدهما مرتبط بإجرام إسرائيل المتواصل منذ عقود، والآخر متعلق باستغلال إيران وأذرعها لهذه القضية المحقة في إطار السياسة التوسعية إقليميا وأوراق الضغط دوليا.

إسرائيل لم تتوقف عن ممارستها العنيفة بحق الشعب الفلسطيني، من قتل وتدمير وتهجير. انتهاكات في القدس وفي الضفة الغربية وفي غزة.

بالموازاة، كانت إسرائيل بممارستها المتطرفة سببًا رئيسيًا في تغذية التطرف المضاد لجماعات مثل حركة حماس والجهاد الإسلامي.

ماذا فعلت إسرائيل بشكل تراكمي قبل وصول الامور إلى هذ النقطة؟ ما هي الاستراتيجية الإسرائيلية منذ عقود وأفضت لحصول ما حصل؟ إنها نتيجة طبيعية لهذه السياسة التي ستترك آثارها وتداعياتها على مجمل الشرق الاوسط.

اتبعت اسرائيل استراتيجية التفريق بين الفلسطينين بهدف إضعافهم. عمدت بسياستها تلك إلى شل قدراتهم وخلق خلافات داخلية وصراع على السلطة. ولتحقيق ذلك، عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على التالي:

 إرسال بواسطة الشاباك مبلغ 30 مليون دولار شهريا إلى حكومة حماس في غزة لتسديد رواتب الموظفين والمتفرغين. كما استمرار تسديد جزء من العلاوات والإتوات المحصلة وإرسالها إلى القطاع "المحاصر".

 نسقت إسرائيل مع حماس عبر وسطاء على أن تعمل شركات في غزة لصالح مصانع إسرائيلية بتغطية شكلية من أطراف ثالثة.

 سمحت إسرائيل بدخول أموال طائلة من الخارج إلى غزة كان أبرزها ما نقل نقدا بالحقائب من مطارات طهران، وما تم تحويله عبر أطراف ثالثة بواسطة المصارف.

 راهنت إسرائيل على أن الأولوية في غزة تتمثل باستمرار سلطة حماس، معتقدة أن هذه السلطة ضعيفة بمواردها المالية القليلة والتي تأتي من إسرائيل بشكل محدود ومسيسطر عليه. بنت الحكومات الاسرائيلية خططها على زيادة الشرخ بين الضفة الغربية وغزة لتقسيم الموقف الفلسطيني. فسعت إلى تزكية الصراع بين السلطتين لعدم تشكيل أي خطر على إسرائيل.

 أهملت إسرائيل الأخطار الأمنية. تل أبيب نامت على قناعة بأنه لا خطر سيأتيها من الجنوب لأن الترتيبات القائمة مع حماس كافية لدرء المخاطر على هذه الجبهة،  بينما التركيز الإسرائيلي كان على مواجهة "الأخطار في الضفة ومحاربة كتيبة جنين وأبناء المخيمات".

 لم تعط تل أبيب أهمية لبعض الدروس والوقائع. لم تعر اهتماما لقدرة الفلسطينين على الاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة. ولم تحلل بعمق هروب 6 أسرى في أيلول 2021 من سجن جلبوع الموصوف بـ"الأعقد والأصعب" بعد هزيمتهم للتكنولوجيا وللكاميرات ولأجهزة التحسس الالكتروني. كما أيضا، تجاهلت تل ابيب درس دخول شرطي مصري في حزيران الفائت إلى موقع حدودي وقتله 3 جنود إسرائيليين، وبقائه ساعات من دون أن ينتبه الجيش الإسرائيلي لوجود مهاجم ولمقتل جنوده في واقعة فاضحة تدل على ترهل الجيش وخموله وافتقاده للتنسيق بين وحداته.

 ظنت تل أبيب ـ قبل "طوفان القدس" ـ أنها بما تقدمه لحماس قد حيّدت غزة وأبعدتها عن ردات الفعل لممارسات المستوطنين المرتكبة بحق الفلسطينيين لا سيما في المسجد الأقصى وفي المخيمات والقرى المجاورة للمستوطنات. فوضعت ثقلها الأمني والعسكري في الضفة وخففت من تواجد جيشها في غلاف غزة.

انعكست الخلافات السياسية الداخلية على أداء الجيش إثر محاولات حكومة نتنياهو إعادة هيكلة الأمن والدفاع بشكل مستغرب. ففي وزارة الدفاع وزيران (غالانت و سموتريتش). كما جرى خلق جيش مواز لوزير الأمن القومي بن غفير الذي يكن البغض والثأر لقيادات الجيش بسبب استبعاده سابقا من التجنيد لطبيعة سلوكه ومواقفه. الأمر الذي حذرت منه المعارضة مرارا من تفكيك السلطات إلى "شظايا وزارات" وأدى لامتناع مئات الطيارين من الالتحاق بمهماتهم القتالية بعد أن بدأت الخلافات داخل الجيش وبين الوزراء المكلفين بالأمن.

هذه النقاط المترابطة أدت تباعا لما أدت إليه إضافة لتدني الروح المعنوية لأفراد الجيش وتأثرهم بالصراعات الداخلية وانقسام الرأي العام الداخلي عاموديا. وبالموازاة، كان الجناح العسكري في تنظيم حماس يعمل على تدريبات تتضمن اقتحام المستوطنات وكيفية خرق السياج الحدودي الإلكتروني وتعطيل الأجهزة الفائقة التحسس واستغلال نقاط الضعف واستعمال أدوات جديدة تؤمن عنصر المباغتة. لكن تل ابيب اعتبرت هذه المناورات والتحضيرات أقرب إلى استعراضات وبروبغندا. اعتقدت أيضا أنّ خطر المباغتة والتسلل سيأتي من الحدود الشمالية من لبنان. عمد حزب الله إلى المزيد من التضليل حين أجرى ناورات تحاكي التسلل إلى المستوطنات الشمالية أمام كاميرات التلفزة وبحضور إعلامي كثيف.

إذن، فإنّ إسرائيل فتحت الباب بشكل أو بآخر لما قامت به حماس وها هي ردة فعلها اليوم بتدمير غزة أقرب إلى رد فعل ممنهج على ما تتحمل تل أبيب مسؤوليته أولا وأخيرا.