الحكومة التونسية أمام رهان امتصاص البطالة المتزايدة

لم تنجح تونس عقب ثورة يناير 2011 في بناء منوال تنموي واقتصادي جديد يقوم على سياسات اقتصادية شاملة وليست قطاعية توفر فرص عمل إضافية، وظلت نسبة البطالة ترتفع من سنة إلى أخرى، مع توقف محركات التشغيل عن استقطاب خريجي التعليم العالي وفي مقدمتها قطاع الوظيفة العمومية.

أزمة بطالة خانقة تزيد من حدّة الصعوبات المعيشية

تونس

تجد الحكومة التونسية نفسها مرة أخرى أمام رهان معالجة معضلة البطالة، في وقت تتزايد فيه أعداد العاطلين عن العمل لتصل إلى قرابة المليون شخص، مقابل تراجع الاستثمارات وفرص الشغل، وسط ترجيحات الخبراء بأن البلاد تحتاج سنويا إلى خلق حوالي 85 ألف فرصة عمل جديدة للتحكم في معدل البطالة الحالي، وذلك بالتزامن مع تساؤلات بشأن امتلاكها الوسائل والآليات اللازمة لتحقيق ذلك.

وتؤكد آخر أرقام المعهد الوطني للإحصاء في تونس تسجيل البطالة ارتفاعا طفيفا لتبلغ 15.8 في المئة خلال الثلاثي الثالث للسنة الحالية، مقابل نسبة 15.6 في المئة خلال الثلاثي الثاني من نفس السنة.

وتواجه مختلف الأنشطة الاقتصادية صعوبات كبيرة، فضلاً عن عجز السلطات منذ أكثر من عشر سنوات عن توفير فرص العمل، بينما كان الشغل على رأس المطالب التي رفعتها ثورة يناير 2011.

وأغلقت السلطات التونسية باب التشغيل في الوظيفة العمومية والقطاع العام منذ سنة 2018، وهي تستعد حاليا لخفض كتلة الرواتب في صفوف الموظفين العموميين بهدف تخفيف العبء عن الميزانية التي تمثل فاتورة الأجور 38 في المئة من إجمالي قيمتها.

 وقال رئيس ديوان وزارة التشغيل والتكوين المهني عبدالقادر الجمالي إن “تونس تحتاج سنويا إلى خلق حوالي 85 ألف فرصة عمل جديدة للتحكم في معدل البطالة الحالي”، مضيفا أنه “يجب توفير أكثر من 100 ألف فرصة شغل جديدة سنويا من أجل التمكن من تخفيض نسبة البطالة في ظل ظروف اقتصادية وطنية وعالمية دقيقة”.

وأكد عبدالقادر الجمالي على ضرورة تطوير نوعية عروض الشغل المطلوبة في القطاع الخاص، وخاصة العروض ذات الصلة بالتطور التكنولوجي، وذلك خلال مشاركته في أشغال الجلسة الافتتاحية لورشة العمل الخاصة التي انتظمت الاثنين بتونس وتم خلالها الإعلان عن الشروع في إنجاز دراسة حول “ملف ريادة الأعمال في تونس”.

وكانت الورشة شهدت حضور مالين بلومبرغ عن الإدارة العامة للبنك الأفريقي للتنمية ورئيسة مكتب تونس عن البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية نوديرا منصوروفا. وذكر رئيس ديوان وزارة التشغيل أن “الحكومة تولي أهمية لملف ريادة الأعمال باعتبار قدرته على زيادة التشغيلية وتحقيق القيمة المضافة”، مشيرا إلى أن “ريادة الأعمال تتيح خلق فرص إضافية للتشغيل وتحفظ ديمومة مواطن العمل القارة”.

وبين أن “وزارة التشغيل والتكوين المهني تعمل ضمن مقاربة تشاركية مع كل الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين والشركاء الفنيين والماليين، بما فيهم البنك الأفريقي للتنمية والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية”، موضحا أن “هدف برامج التعاون الدولي ضمن إطار عمل الوزارة يتركز على تحفيز المبادرة الخاصة عبر دعم إحداث المؤسسات الفردية والجماعية بالإضافة إلى العمل على مساعدة الباعثين على الانتقال من القطاع غير المنظم إلى القطاع المنظم”.

ولاحظ أنه بـ”إمكان الباحثين عن شغل من حاملي الشهادات العليا الحصول على تمويلات تصل إلى 200 ألف دينار(64.23 ألو دولار) لتمويل مشاريعهم من البنك التونسي للتضامن”، مذكرا بأن “قانون المالية لسنة 2023 رصد خط تمويل قيمته 20 مليون دينار (6.42 مليون دولار) لتمويل الشركات الأهلية، وكذلك خصص 10 ملايين دينار(3.21 ملايين دولار) لتمويل الأنشطة المدرة للدخل لفائدة الفئات الضعيفة”.

وتعزو السلطات التونسية ارتفاع نسبة البطالة إلى تردي الأوضاع الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا وارتفاع تكاليف استيراد المواد الأساسية والطاقة.

ويرى مراقبون أن ضبابية السياسات الحكومية المتعاقبة في السنوات الأخيرة ألقت بظلالها على الواقع الاقتصادي والاجتماعي، حيث فشلت حكومات ما بعد 2011 في إرساء منوال تنموي واقتصادي ووضع إستراتيجيات لازمة لمعالجة الأزمات ومحاربة الفقر والبطالة.

وافتقرت الحكومات المتعاقبة في تونس إلى إستراتيجيات واضحة المعالم والأهداف، تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل جهة وإقليم وترسي منوالا تنمويا يقطع مع التمييز السلبي ويعطي مسألة التشغيل والمشاريع التنموية الأولوية القصوى.

وقال فوزي بن عبدالرحمن الخبير الاقتصادي ووزير التكوين المهني والتشغيل السابق، إن “محركات التشغيل في تونس هي الوظيفة العمومية المغلقة منذ أكثر من 10 سنوات، والقطاع الخاص والمبادرة الحرّة، لكن هذه المحركات في حالة جمود”.

وأكد لـ”العرب” أن “15.8 في المئة (نسبة البطالة) تعني عدد من صرّحوا للمعهد الوطني للإحصاء (بين 15 و35 سنة) وعددهم في حدود 750 ألف عاطل عن العمل، لكن هناك من لا يشتغلون ولا يبحثون عن شغل وعددهم في حدود المليون شخص وهم خارج احتساب نسبة البطالة في البلاد”.

واعتبر فوزي بن عبدالرحمن أن “عدد العاطلين عن العمل يبلغ 750 ألف شخص (ثلثان من الإناث وثلث من الذكور)، 40 في المئة منهم من حاملي الشهادات العليا، و60 في المئة ليسوا من خريجي الجامعات، كما أن نسبة البطالة لحاملي الشهادات العليا تبلغ 32 في المئة، في حين تبلغ عند من لا يملكون شهادات عليا 11 في المئة”.

وكان قانون المالية للعام 2022 نص على إحداث خط لتمويل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني باعتماد مالي قدره 30 مليون دينار (9.63 مليون دولار) خصص لإسناد قروض بشروط تفاضلية لإحداث مؤسسات اقتصاد اجتماعي وتضامني.

وينتظر أن يتم الانطلاق قريبا في تنفيذ برنامج لمساندة المؤسسات الصغرى المتعثرة باعتماد مبلغ قدره 26 مليون دينار (8.35 مليون دولار)، وذلك بالتعاون مع الوكالة الفرنسية للتنمية.

وتتطلع وزارة التشغيل إلى تدعيم النفاذ إلى التمويل عبر برمجة 50 مليون دينار إضافية لفائدة المؤسسات الصغرى والمتوسطة والفئات الهشة.

وأفاد الخبير المالي والمصرفي محمد صالح الجنّادي بأن “البطالة مرتبطة بالاستثمار الداخلي للدولة، والتقليص من نسبتها يتطلب تنوّعا في الاستثمارات القطاعية التي تعمل على تطوير النمو وزيادة اليد العاملة وخلق فرص العمل”.

وقال لـ”العرب” إن “هذه القطاعات بالأساس هي الطاقة والصناعة والزراعة والسياحة”، لافتا إلى أن “الاستثمار الخارجي تراجع من 2.1 في المئة إلى 1.4 في المئة، وعلى الدولة أن تضع نموذجا خاصا للسوق المحلية”.

وأضاف الجنادي أن “الاستثمار يرتبط بالعلاقات الخارجية والنشاط الدبلوماسي خاصة في قطاعات الفوسفات والبترول والزراعة، وعلينا أن نخفف الأعباء في الميزانية والديون التي تعطّل خلق فرص العمل، فضلا عن فتح باب الاستثمار وتنقيح القانون الخاص بالاستثمار أمام الأسواق الخارجية، وهذه كلها رهانات سياسية بالأساس”.

واعتبر الخبير المالي أن “نقطة واحدة في النمو تعني تشغيل 15 ألف عامل، وبالتالي وجب تحقيق نسبة نمو في حدود 6 في المئة لتشغيل 85 ألف شخص سنويا، في وقت تبلغ فيه نسبة النمو الحالية 0.8 في المئة، لذلك لا بدّ من تحقيق 1.5 في المئة في القطاعات الأربعة، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية واضحة”.

ولفت إلى أنه “يوجد حاليا مليون عاطل عن العمل في تونس، وهناك 100 ألف من خريجي الجامعات لسوق الشغل سنويا، وهذا يستدعي أيضا تحسين مستوى البنية التحتية وآليات التكوين لاستغلال الموارد البشرية”.

وأدت ظاهرة الانقطاع عن التعليم إلى تزايد نسبة العاطلين عن العمل في صفوف الشباب الذين لا تزيد أعمارهم عن 30 عاما في تونس.

وكشفت دراسة أنجزها كل من مكتب الأمم المتحدة بتونس ومنظمة العمل الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن أكثر من شاب من بين أربعة شباب في تونس غير متمدرسين وغير متابعين للتكوين المهني وغير ناشطين في سوق الشغل.