تقارير وتحليلات
بسبب نشر الفوضى في ليبيا
مطالب بمقاضاة تركيا وقطر أمام المحكمة الدولية
يضع ضابط شاب، كمامة على وجهه كإجراء احترازي من فايروس كورونا. يُقلِّب في كومة أوراق فوق مكتبه، في جنوب مدينة بنغازي (نحو ألف كيلومتر شرق طرابلس)، ومن وقت إلى آخر، تصدر عنه صيحة انتصار، وذلك لأنه عثر على دليل يمكن أن يفيد في ملف مقاضاة تركيا وقطر أمام محاكم دولية مختصة.
ورغم الإجراءات الاحترازية لمواجهة انتشار فايروس كورونا، إلا أن أعضاء ومتطوعين في لجان عسكرية ومدنية في ليبيا لم يتوقفوا عن البحث والتدقيق لجمع الأدلة والوثائق التي ستثبت حقيقة ما يجري في بلادهم وتكشف خفايا عدوان أنقرة والدوحة.
بدا، لأول مرة منذ 2011، أن هناك ضباطا من مدن الغرب يتعاونون مع ضباط في القيادة العامة للجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، ومقرها في بنغازي. ويأتي ذلك، بينما تتسع دائرة الرفض في ليبيا للسياسات المنحازة لنظام الرئيس رجب طيب أردوغان. ولم يعد يأت أحد على ذكر تركيا في ليبيا إلا ويذكر معها قطر والتنظيمات الإرهابية وشحنات الأسلحة والمرتزقة.
وعن عمليات البحث الجارية، يقول مستشار القيادة العامة للجيش، صلاح الدين الشكري، لـ”العرب”، وقد وضع كمامته البيضاء على وجهه كإجراء احترازي من فايروس كورونا، “رغم ظروف الاحتراز من كورونا، إلا أننا اقتربنا من الانتهاء من إجراءات تقوم بها لجان عسكرية تجمع الأدلّة والمستندات والوثائق التي تدين عدوان النظامين التركي والقطري على ليبيا، بما في ذلك إرسال الأسلحة والإرهابيين والمرتزقة إلى بلادنا”.
ومنذ شهور زادت وتيرة اتهام قادة في الجيش الوطني الليبي، وقبائل ونشطاء، لنظامي أنقرة والدوحة وقادة الإرهاب، بـ”بنشر الفوضى والخراب في ليبيا". لكن، اللاّفت في الفترة الأخيرة، تغيُّر مزاج ضباط يعملون في مدن، تقع تحت سيطرة ميليشيات وإرهابيين ومرتزقة، وإدانتهم لسياسة أردوغان.
القادمون من تركيا
يتقاضى كل مرتزق سوري أو مصري أو تونسي، ممن أرسلهم أردوغان للدفاع عن الحكومة في طرابلس، نحو ألفي دولار في الشهر من أموال الليبيين، وفي المقابل لا يتعدى راتب ضابط الجيش أو الشرطة في طرابلس، ألف دينار (حوالي 700 دولار). ويقول أحد الضباط “هذا بلا شك يثير الحنق”.
لكن هناك تفاصيل أخرى جعلت الكثير من ضباط طرابلس يفكرون في مصيرهم ومصير بلادهم، فالمرتزق الأجنبي المُرسل من أردوغان يحقّ له القبض على أيّ رجل أمن أو أيّ عسكري يعارض تحركات هؤلاء الأجانب المسلحين في العاصمة. وجرى القبض على ضباط في دورية شرطة طرابلس قبل أسبوعين، وتم احتجازهم في المقرّات القديمة لميليشيا الردع الطرابلسية، وجرى التحقيق معهم على أيدي سوريين، وتعرضوا لإهانات.
دوريات الشرطة الرسمية ودوريات الجيش، التابعة للمنطقة العسكرية طرابلس، مطلوب منها الانسحاب من المناطق التي يحددها المرتزقة القادمون من تركيا، وعسكريون أتراك في قاعدة معيتيقة يخططون لترتيب الأمن في العاصمة مع مرتزقة ومع قادة ميليشيات، ويرفضون حضور أيّ ضابط ليبي.
يأتي تبرّم كثير من رجال الجيش والشرطة في غرب البلاد في سياق غضب عارم من جانب الليبيين، بعد أن قام رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، بزيادة الارتماء في أحضان اللوبي الإخواني الذي ترعاه أنقرة والدوحة في الشهور الأخيرة.
وما يحزّ في نفس معظم رجال الأمن الطرابلسيين، فوق كل ما سبق، أن الميليشيات شعرت بقوتها بعد تصاعد الدعم التركي للسراج، فاستولت على منظومة اتصالات الاستخبارات في العاصمة بما فيها من معلومات وإمكانيات.
فـ”أبسط إجراء يمكن أن يقوم به المغلوب على أمره، هو أن يكتب المظالم التي يتعرّض لها هو ومن حوله، ويجمعها في مكان معلوم، انتظارا ليوم الحساب”، هكذا يقول أحد ضباط الجيش أمام غرفة عمليات منطقة طرابلس العسكرية.
دوريات الشرطة الرسمية ودوريات الجيش، التابعة للمنطقة العسكرية طرابلس، مطلوب منها الانسحاب من المناطق التي يحددها المرتزقة القادمون من تركيا
ويضيف قائلا “يمكن لأيّ أدلة، أو وثائق عن شحنات الأسلحة التركية، وعن أنواع المرتزقة الذين أرسلتهم أنقرة، وعن كيفية دخولهم ليبيا.. يمكن لكلّ شيء أن يسهم في إجراءات مقاضاة تركيا خلال الفترة المقبلة، فليبيا لن تظل في فوضى وانقسام إلى الأبد”.
يمكن هنا التحدث عن التحول المثير للانتباه لشريحة مهمة من العسكريين في طرابلس، وفي مصراتة أيضا، لصالح الجيش الوطني، وهو تحول يتخطى محاولات دولية تراوح مكانها منذ أشهر، لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية.
ربما كان من محاسن الصدف أن لجانا تابعة للقيادة العامة للجيش بدأت تعمل لجمع ملف الأدلة ضد هذه الفوضى التركية، والقيادة العامة جهة عسكرية صارمة لا تعلن عن تفاصيل ما توصلت إليه أولا بأول.
ويلفت صلاح الدين الشكري بالقول “ما تحويه الملفات التي لدينا من معلومات بخصوص عدوان تركيا وقطر على ليبيا مهم للغاية.. لا نريد لهم أن يعرفوا كل ما نملكه من معلومات إلى أن نباغتهم أمام جهات التحقيق الدولية”.
رغم الخوف من كورونا الذي يجبر الناس على البقاء في بيوتهم، إلا أن الليبيين يشعرون أن التدخل التركي في بلادهم أخطر من هذا الفايروس، فقد شرعت لجان تابعة للحكومة المؤقتة برئاسة عبدالله الثني، ومقرها مدينة البيضاء (حوالي 1200 كيلومتر شرق العاصمة) في اتخاذ خطوات تتعلّق بجمع الأدلة لمقاضاة كلّ من أنقرة والدوحة.
أما في مدن الغرب الليبي، بما فيها تلك التي يُفترض أنها تحت سلطة السراج، فقد بدأ ضباط أمن محترفون وغاضبون توثيق العدوان التركي القطري السافر، وفقا لمصدر في جهاز المخابرات في العاصمة، مشيرا إلى أنه “أصبح يوجد تنسيق في هذا الملف بين معظم العسكريين من كل أنحاء ليبيا، بغض النظر عن أي شيء آخر”.
توجد في ليبيا سلطتان، الأولى بدأت عام 2014، وتعتمد على مجلس النواب المنتخب، وتتكون من حكومة الثني، ومعها الجيش، ومعظم مؤسسات هذه السلطة بدأت من مدن الشرق.
والسلطة الثانية برئاسة السراج، وانطلق عملها من العاصمة مطلع 2016، وهي مدعومة دوليا بشروط، منها ضرورة مصادقة مجلس النواب على الحكومة ونزع سلاح الميليشيات وإجراء مصالحة عامة تنهي الفوضى في ليبيا، غير أنّ هذا لم يحدث، بل ظلت حكومة السراج منكمشة داخل الأسوار المطلّة على بحر طرابلس، رغم أنها أنفقت حتى الآن أكثر من ربع تريليون دولار.
شكوك في من يسأل
يُعطي القادة العسكريون معلومات شحيحة عمّا يدور خلف الكواليس، فدائما هناك شكوك في من يسأل عن معلومات أو عما سيحدث غدا، ودون الخوض في التفاصيل، رصد ضباط في طرابلس، في الفترة من بداية هذا العام وحتى منتصف شهر مارس الجاري، آلافا من البنادق والمسدسات وواقيات الرصاص الخاصة بتسليح القوات التركية، وتم تخصيصها للمرتزقة الذين جاؤوا لليبيا.. بنادق مشاة ماركة “إم بي تي 76”، وبنادق قنص نصف أوتوماتيكية ماركة “كيه إن تي 76”، وأكوام من المسدسات وكواتم الصوت، والصدريات المضادة للرصاص.
ما يثير علامات الاستفهام لدى ضباط ومستشارين عسكريين، مثل الشكري، أن الأسلحة التركية ما زالت تتدفق على ليبيا أمام مرأى المجتمع الدولي، رغم وجود حظر على توريد الأسلحة لليبيا منذ 2011، وتم التأكيد عليه في مؤتمر برلين الخاص بحل الأزمة الليبية، ثم من قبل مجلس الأمن، “إنهم يشاهدون وينددون، ولا يفعلون شيئا”، في إشارة إلى المؤتمرات الدولية الأخيرة التي وبّخت السلوك التركي تجاه ليبيا، دون أيّ إجراء ذي شأن.
الليبيون عنيدون ولا يتوقّفون عن العمل، ففي جنوب طرابلس جمع محققون عسكريون خمسا على الأقل من حطام طائرات مسيرة من ماركة “بيرقدار تي بي 2” تركية الصنع، وعثروا أيضا على أجهزة إرسال تخص توجيه هذا النوع من الطائرات عن بعد، مثبتة على أسطح عمارات فيها سكان مدنيون.
واكتشفت المحقّقون أن توسيع نطاق أجهزة الإرسال في الشهرين الماضيين، أدّى إلى إطالة أمد تحليق الطائرات المسيرة إلى نحو 170 كيلومترا، بهدف ضرب مؤخرة الجيش، لإرضاء السراج.
أما تقارير مدينة مصراتة (200 كيلومتر شرق طرابلس) فتشير إلى عثور محققين في جهاز المخابرات على 45 صندوقا من بنادق قنص أوتوماتيكية ماركة “بورا 12”، وقاذفات صاروخية وذخيرة في اثنين على الأقل من المخازن، الأوّل مخزن القاعدة الجوية، والثاني مخزن يعرف باسم “الرويسات”.
في مدينة سرت (400 كيلومتر شرق العاصمة)، صادرت قوات عسكرية 48 آلية تركية في أثناء دخول الجيش الوطني للمدينة في يناير الماضي، بحسب الشكري. كما ألقت السلطات الأمنية القبض على 37 من المتطرفين في يوم واحد، ونقلت المتهمين والمشتبه بهم إلى مقرّات احتجاز تخصّ الجيش في مكان ما من وسط البلاد لاستجوابهم. من بين ما تمّ العثور عليه كذلك قوائم اغتيالات أعدّتها الجماعات الإرهابية لشخصيات من بينهم رجال أمن ومحامون وقضاة ومثقفون. ووجدت هذه القائمة في مقر المحكمة الشرعية الخاصة بداعش والذي كان يقع في معسكر 17 فبراير في بنغازي، وهي تضم مئات الأسماء.
في مكتب أمني آخر عكف المحقّقون على فرز كتلة أوراق يبلغ وزنها نحو 7 كيلوغرامات، مربوطة بحبل، وتحوي وثائق هوية تخص مقاتلين من جنسيات مختلفة قادمين من أنقرة، ومعلومات عن إرهابيين ومستشارين عسكريين أجانب في قاعدة معيتيقة، وكانت هناك بيانات لمرتزقة سوريين تم العثور على جثثهم في ضواحي الدريبي وجنزور وكشلاف بالعاصمة.
وتقول مصادر مقرّبة من حكومة الوفاق في طرابلس إن شركة “صادات” العسكرية التركية الخاصة مِن بين مَن يقوم بنقل العتاد العسكري والمقاتلين الأجانب إلى ليبيا، وهي مقرّبة من الرئيس أردوغان.
لكن رئيس مجلس إدارة “صادات”، مليح تانريفردي، أجاب على أسئلة “العرب” بهذا الخصوص عبر البريد الإلكتروني، قائلا “هذا غير صحيح، على الإطلاق، وشركته ليست لديها قوة عسكرية مسلحة وغير مسلحة”، وهي “ليست منظمة مرتزقة”.
وتضمنت إجابة تانريفردي، أن “ليبيا دولة صديقة وحليفة لتركيا، وإنه لأمر طبيعي تعزيز الصداقة والتعاون بالاتفاقات الموقعة بين البلدين الحليفين”. وأضاف “وكما هو معروف، فقد طلبت الحكومة الليبية مؤخّرا مساعدة الحكومة التركية ضد الجماعات المتمردة”، واختتم قائلا “ردا على ذلك قررت الحكومة التركية إرسال القوات المسلحة التركية إلى ليبيا بغية تقديم الدعم التدريبي للقوات المسلحة التابعة للحكومة الليبية”.
اقترن عمل السرّاج، خاصة خلال العامين الأخيرين، بانتقادات واسعة من أجهزة الرقابة المحليّة، ومن المجتمع الدّولي، لفشله في توحيد الليبيين وإنعاش الاقتصاد وتوفير الخدمات الرئيسية. تبعت ذلك محاولاته لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية في العاصمة، وطرد خصومه منها، خاصة المخابرات ومكافحة الإرهاب، إذ كان معظم ضباط تلك الأجهزة يتمسّكون بضرورة توحيد مؤسسات الدولة، والوقوف ضد تغوّل الميليشيات، والعمل على محاربة الإرهاب، وبدا أن كلّ هذا يتعارض مع توجهات السراج وحلفائه.
تمكّن الجيش الوطني من فرض الأمن والاستقرار في مناطق واسعة من ليبيا، وجاء منذ أبريل 2019، لمحاصرة الميليشيات في معقلها الأخير طرابلس، ويبدو أن السرّاج كان قد فشل في إقناع أيّ حلفاء دوليين أقوياء لمنع الجيش من دخول العاصمة، ولم يجد أمامه غير تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو ما زاد الطين بلة.. ويقول مصدر في المخابرات “هنا شعرنا بخطر حقيقي”.
لكن الإمكانيات الضعيفة والحصار الذي تعيشه الأجهزة الأمنية في طرابلس لم يعطها الفرصة لاتخاذ موقف صارم من ممارسات السراج، فمثلا حاول المدّعي العام العسكري السابق، المستشار مسعود رحومة، فتح ملفّ يخص ارتباط شخصيات محسوبة على المجلس الرئاسي بالإرهاب في 2018، إلا أنه تعرّض للاختطاف على أيدي مجموعات ميليشياوية.
واتسع نطاق انحياز المجلس الرئاسي إلى “اللوبي التركي القطري” قبل نهاية العام الماضي حين قام السراج بتوقيع مذكّرتي تفاهم مع نظام أردوغان لترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني والعسكري، وقيام الدوحة بتبنّي هذه التوجهات، وسط حفاوة من قادة جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة.
ويختم الشكري مؤكدا “نحن لا نتحدث عن العدوان على طرابلس فقط، ولكن لجان جمع الوثائق ضد تركيا وقطر تشمل ليبيا كلها، لقد بدأوا العدوان مستخدمين جماعة الإخوان وباقي الجماعات المتطرفة، بدأوا في درنة، وبنغازي.. ثم حاولوا احتلال منطقة الهلال النفطي، وكذلك قاعدة الجفرة”.
ويضيف “اليوم يتدخل الأتراك بشكل سافر بالمرتزقة، وبالأسلحة، وبالغارات الجوية، بالطيران المسيّر وغير المسيّر، كل هذه أعمال مسلحة عدوانية ضد دولة مستقلة ذات سيادة، ولا بد أن يدفع البلدان الثمن غاليا لما قاما به بحق الليبيين”.