شؤون العرب والخليج
طهران تسعى لإنقاذ ما بقي من نفوذها في العراق، عبر خوض معركة مفتوحة داخل البرلمان العراقي لضمان حظوظ الأحزاب الموالية لها..
إيران توبخ أحزابها في العراق بعد تلاشي شعبيتها
قالت مصادر سياسية في بغداد إن إيران وجهت تقريعا شديدا للأحزاب والميليشيات الموالية لها في العراق، بعدما أثبتت حركة الاحتجاج الواسعة في البلاد أن طهران لا تتمتع بالشعبية المزعومة في الأوساط الشيعية، التي شكلت العمود الفقري للتظاهرات.
ويشعر قادة النظام الإيراني، لاسيما المرشد الأعلى علي خامنئي وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني، بالإهانة، وهم يتفرجون على صورهم تحت أقدام المتظاهرين العراقيين، فيما قنصليات بلادهم تحترق على أيدي المحتجين، في أهم مدينتين للمذهب الشيعي على مستوى العالم، وهما النجف حيث مرقد علي بن أبي طالب وكربلاء حيث مرقد نجله الحسين.
وتزعم إيران أنها الممثل الحقيقي لمصالح الشيعة في العالم، وتراهن على عمقها المذهبي في العراق لتعزيز نفوذها، لكن حركة الاحتجاج التي أججها شبان شيعة في مدن وسط وجنوب البلاد، كشفت وهن الحضور الإيراني في العراق.
وفي الناصرية مركز محافظة ذي قار جنوب البلاد، انتقم السكان المحليون لمقتل أبنائهم المتظاهرين بإعلان المدينة خالية من الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران، بعدما أحرقوا جميع مقراتها، وأجبروا المرتبطين بها على توقيع صكوك براءة منها.
وفي مدينة العمارة المجاورة، لم يعد ممكنا للمسلحين الذين ينتمون إلى بعض الميليشيات الموالية لإيران أن يظهروا إلى العلن، بعدما لاحقهم المتظاهرون بتهمة قتل رفاقهم.
وفي مدينة الديوانية مركز محافظة القادسية القريبة، أغلقت مقرات جميع الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران، بعدما أحرق المتظاهرون عددا منها، وطلبوا من أشخاص يشغلون أخرى المغادرة فورا.
الناصرية والعمارة والديوانية خالية من الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران
ويقول مراقبون إن إيران من دون هذه المنصات المؤثرة في المحافظات الجنوبية التي يغلب الشيعة على سكانها، لن تتمكن من السيطرة والتوجيه، وهما مطلبان رئيسيان لطهران، التي تريد استخدام العراق في حرب تصفية خلافاتها مع دول الخليج والولايات المتحدة.
وتسعى إيران لإنقاذ ما بقي من نفوذها في العراق، عبر خوض معركة مفتوحة لإقرار قانون انتخابات في البرلمان يضمن حظوظ الأحزاب الموالية لها، ولا يفسح للكثير من القوى المناوئة لها بالصعود.
لكن هذا ليس كافيا، إذا لم يكن رئيس الوزراء الذي سيخلف عادل عبدالمهدي خاضعا بالقدر المطلوب، كسلفه، لإيران، لأن رئيس السلطة التنفيذية في العراق، هو لاعب أساسي في تحديد مدى نزاهة أي عملية انتخابية.
لذلك، تعمل إيران في جبهتين، عبر مفاوضات القوى السياسية حول قانون الانتخابات، وعبر مفاوضات القادة السياسيين لتشكيل الحكومة الجديدة، وهو عمل يواجه عراقيل عديدة، أبرزها دخول التظاهرات بوصفها لاعبا مؤثرا في المعادلة العراقية، التي كان يحكمها مستوى نفوذ الولايات المتحدة أو الرؤية الإيرانية أو قدرة المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني على التداخل في الشأن السياسي.
وأربك السيستاني الخطط الإيرانية لاحتواء الوضع العراقي مؤخرا، عندما طالب بانتخابات مبكرة.
وترى القوى السياسية المرتبطة بإيران، أن أي انتخابات مبكرة، في ظل النقمة الشعبية ضدها، ستخرجها من البرلمان بشكل مذل، لذلك تماطل في تحديد مواقيت دستورية واضحة لإجراءات المرحلة الانتقالية.
وفي حال مررت هذه القوى مرشحها لتشكيل الحكومة المقبلة، فإن مهمته الأساسية في المرحلة المقبلة ستكون حماية الوجود السياسي للأحزاب والميليشيات العراقية الموالية لإيران.
وباستثناء القوى المنضوية في تحالف البناء، الذي شكل ليكون خيمة لجميع القوى السياسية المرتبطة بإيران مباشرة، تخشى الكتل الشيعية خسارة الشارع في حال مضت نحو تجاهل التظاهرات ومطالبها.
ويضع رجل الدين الشيعي الذي يحظى بتأييد كبير، مقتدى الصدر، رجلا في ساحات التظاهر، وأخرى في المربع المجاور للمربع الذي تقف فيه القوى الإيرانية، كي يحافظ على شعبيته من جهة ويبقى مؤثرا في الشأن السياسي من جهة ثانية.
وبرغم القطيعة بين الصدر وبعض القوى الرئيسية في التحالف الموالي لطهران، فإن علاقته بالقيادات الإيرانية جيدة، وهو تناقض لا يمكن فهمه إلا في سياق الحالة السياسية العراقية.
وإلى جانب الصدر، يبرز تحالف رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، الذي بات يوضع علنا ضمن خانة الحلفاء الموالين للولايات المتحدة ضد إيران.
ولأن كل شيء في السياسة العراقية يدور حول إيران، يمثل مستوى الجرأة في مواقف العبادي المناهضة لإيران، مقياسا لفهم حقيقة تراجع نفوذ طهران في بغداد.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات مطلع أكتوبر الماضي في بغداد والمحافظات، حافظ العبادي على نفس هجومي ضد السياسات الإيرانية في العراق. وبينما توقع كثيرون أن يتعرض لتصفية سياسية، رفع نغمته المناهضة لإيران عندما ازداد قمع الاحتجاجات من قبل الحكومة، ما تسبب في سقوط قرابة خمسة وعشرين ألف قتيل وجريح طيلة ثلاثة أشهر.
وخلال محاولة الأحزاب الموالية لإيران فرض قصي السهيل، وهو مرشح ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي لتولي منصب رئيس الوزراء خلفا لعبدالمهدي، اعتبر العبادي هذا الاتجاه خطرا يهدد البلاد وينذر بتصعيد شعبي كبير.
ومنذ 2003، لم يسبق أن تمرد على إيران مشروع سياسي شيعي في العراق خلفيته إسلامية، كما حدث مع العبادي، ما يؤشر إلى التراجع الكبير في الهيمنة الإيرانية المفترضة على الشأن السياسي العراقي.
ويقول مراقبون إن القوى السياسية المناهضة لإيران وحركة الاحتجاجات، تتبادلان التخادم، برغم أن الشارع لا يثق في الطبقة السياسية برمتها، ولا يفرق كثيرا بين الصدر والمالكي، العدوين اللدودين.
وليس من اليسير على القيادة الإيرانية أن تبتلع حقيقة أن كل ما خططت له من أجل فرض وصايتها على العراق عبر أكثر من عقد من الزمن قد ذهب أدراج الرياح وأن شيعة العراق الذين أدرجتهم إيران في وقت سابق ضمن رعيتها لم يكونوا في حقيقة الأمر كذلك بل هم اليوم يقفون في مواجهة مشروعها، لا من أجل إنهاء هيمنتها على العراق فحسب بل وأيضا من أجل قطع الطريق التي تيسر لها خط الإمداد الذي يصل إلى حزب الله.
واعتبر مراقب سياسي عراقي أن الخسارة الإيرانية في العراق لا يمكن تعويضها. غير أن تلك الخسارة هي أكبر من حجمها الواقعي حين يتعلق الأمر بموقع العراق في المعادلة الإيرانية.
وأوضح المراقب في تصريح لـ”العرب”، “الخسارة الآنية المباشرة هي أصغر بكثير من الخسارة على المدى البعيد. وذلك كله مرتبط بإمكانية فقدان الأحزاب الموالية لإيران قدرتها على التحكم بزمام المبادرة السياسية، بحيث يمكن أن يؤدي صعود نخب سياسية جديدة إلى أن يفلت القرار من يد إيران وتفقد القوى والكتل السياسية المرتبطة بها القدرة على التحكم بالشارع، وهو ما صار حدوثه متوقعا في حال أجبرت الحكومة على إقامة انتخابات مبكرة في ظل قانون انتخابي منصف”.
ويبدو أن الأحزاب التي صارت تشعر بأن زمن نهاية هيمنتها قد بات قريبا تحاول اليوم كسب المزيد من الوقت من أجل إعادة ترتيب أوراقها بعد أن تم تقييد قدرتها على استعمال ميليشياتها في القمع المباشر.