تقارير وتحليلات
وكالات عربية..
صحيفة عربية: القهوة هدية اليمن إلى العالم
يُطلق على القهوة لقب “بنت اليمن”، وهناك ما يبرر هذا النسب؛ فبحسب الروايات التاريخية، كانت اليمن البلد الذي قدّم هذا المشروب إلى العالم، وجعله في متناول الجميع، من خلال زراعته في مرتفعات اليمن الملائمة، وتصديره عبر موانئها. مرت رحلة البُن من اليمن الى العالم بعدة محطات؛ بداية من تحريمها دينياً، ومروراً باستخدامها كشراب محفز على القتال، وباعث للحكمة، ووصولاً إلى اعتبارها مورداً اقتصادياً مهماً يجذب الدول الاستعمارية إلى اليمن.
اختلفت الروايات التاريخية حول بداية الحكاية، لكن يكاد أن يُجمع على أن البُن عُرف في إثيوبيا والصومال بشكلٍ محدود، لكن زراعته في اليمن، حوالي القرن الخامس عشر، كانت السبب في انتشاره عبر الجزيرة العربية والعالم الإسلامي، وصولاً إلى أوروبا. هناك عِدة عوامل منحت اليمن فضل تقديم البُن إلى العالم؛ أولها البيئة المثالية لزراعته، وهو أمر غير مُستغرب، إذ عُرف هذا الركن من العالم باسم العربية السعيدة لما يتمتع به من مناخ وتربة ملائمة، جعلته متمايزاً بشدة عن البيئة الصحراوية التي تُعرف بها الجزيرة العربية.
شاهد: 5 فوائد لبقايا القهوة.. ستفاجئك
أما العامل الثاني، فهو موانئ اليمن التي تربطها بالعالم الخارجي، منذ ما قبل الميلاد؛ وقد أدّى ميناء المخا الدور الأبرز في تصدير البُن حتى عرفت القهوة باسمه، موكا، نسبة إلى لفظة (المخا). قرب اليمن وارتباط أهله بمكة كان العامل الثالث في انتشار البُن؛ حيث حمل الحجاج حبوب هذا المشروب معهم، ومن هناك انطلقت القوافل تحمل تلك الحبوب إلى جميع أرجاء العالم الإسلامي.
جدل فقهي
يتم تحضير القهوة من حبوب البُن بعد تحميصه. مستويات التحميص المختلفة تعطي تأثيرات مختلفة، وبشكلٍ عام، يؤثر مشروب القهوة إيجابياً على الحالة المزاجية، والشعور بالارتياح. كما اعتبرها علماء مثل الرازي وابن سيناء (القرن العاشر والحادي عشر ميلادي) أحد أنواع الأدوية للشفاء من بعض الأمراض. وبالرغم من تلك المزايا الجيدة فإنها كانت تلاقي استنكاراً من وقتٍ لآخر؛ ففي مطلع القرن السادس عشر جادل رجال الدين في مكة حول حُكم تناول القهوة بعد ما رأوا تأثيرها على الإنسان، وتم اعتبارها في النهاية شراباً مكروهاً.
خادم يقدم القهوة لمجموعة من تجار البن اليمنيين الذين أقاموا معسكرًا في الصحراء في طريقهم إلى المخا، حوالي عام 1850- HULTON ARCHIVE / STRINGER
لكن فتوى علماء مكة تلك لم تعجب والي مكة، خاير بك، المعيّن من قبل السلطان المملوكي في مصر؛ حيث أجبر الفقهاء على إصدار فتوى بتحريم القهوة، وبناء على تلك الفتوى، تم إغلاق وتدمير المقاهي ومعاقبة شارب القهوة وحرق محلات ومخازن البُن، وقد لاقت إجراءات خاير بك سخطاً شعبياً. انتقلت عدوى الخلاف على التحريم من الحجاز إلى مصر وتركيا، وأدت إلى حالات شغب في القاهرة؛ حتى هُوجمت المقاهي وكُسرت الأقداح، وتعارك المعارضون مع المؤيدين.
استمر الجدل الفقهي حول حكم شرب القهوة حوالي قرنين من الزمان، وكان الناس خلالها يشربون القهوة سراً في مكة والمدينة والقاهرة واسطنبول، كما كانت تُباح أحياناً بوصفها شراباً يُعين المقاتلين على القتال ببسالة في ساحات القتال، ويزيد من حكمة الفلاسفة والعلماء، ويساعد المتصوفة على التأمل والعبادة وقيام الليل. لكن الخلاف انتهى تقريباً أواخر القرن السادس عشر لصالح القهوة، التي أصبحت شراب الجميع، النخبة والعامة، في البيوت والمقاهي، وتحلّق لشربها المثقفون الذين أصبحت نقاشاتهم -بسبب تأثير القهوة- أكثر عمقاً وثراءً وحماسة!
رحلة حول العالم
طِوال تلك الرحلة، بقيت اليمن مصدر البُن من خلال الموانئ والطرق البرية، حيث حمل التجار والحجاج وطلاب العلم أكياس البُن أينما اتجهوا، سواء إلى مكة والمدينة للحج والعمرة، أو إلى مصر للدراسة في الأزهر الشريف، أو لأغراض التجارة الخالصة التي أدّت إلى ظهور بيوت تجارية كبيرة مثل أسرة آل بازرعة القادمة من حضرموت، والتي استقرت بالقاهرة، حيث اشترى التاجر محمد بازرعة وكالة أخشاب في منطقة الجمالية بحي الأزهر الشريف، وحوّل المبنى إلى وكالة “بازرعة” لبيع البُن والخشب والُلبان.
لفتت القهوة أنظار الرحالة الغربيين المتجولين في الشرق الأوسط، ومنهم الأطباء وعلماء النبات الذين استحسنوا شربها واعتبروها مفيدة للشفاء من بعض الأمراض. وهكذا انتقلت القهوة تدريجاً إلى أوروبا بدايةً من إيطاليا، نهاية القرن السادس عشر، وبداية القرن السابع عشر. انتشار القهوة دفع إلى تتبعها والاهتمام بمصدرها، العربية السعيدة، وهكذا لفت جنوب الجزيرة العربية الأنظار من جديد، تماماً كما فعلت حضاراته القديمة، مثل سبأ وحضرموت، عندما كانت مصدر الُلبان المستخدم في الطقوس الدينية والعلاجات في حضارات العالم القديم كمصر واليونان وفارس.
التنافس للوصول إلى اليمن
تماماً مثل محاولة غايوس أيليوس الوصول إلى بلاد العربية السعيدة، وضم مملكة سبأ إلى الامبراطورية الرومانية بين عامي 26-24 ق.م، حاولت القوى الأوروبية أيضاً في حُقبة التوسعات الاستعمارية الوصول إلى مصادر البُن في اليمن، والسيطرة على موانئ اليمن التجارية المهمة لأغراض تجارية وعسكرية.
وحتى منتصف القرن السابع عشر، ظل الأوروبيون يتاجرون في البُن اليمني، من خلال تجار الجملة في القاهرة والوسطاء الإنجليز والهولنديين، لكن انتشار القهوة الكبير في أوروبا دفع بدولٍ أخرى مثل فرنسا إلى محاولة الوصول مباشرة إلى المخا، المصدر الأول للبُن.
أُرسلت أول بعثة فرنسية إلى اليمن خلال الفترة من 1708-1710 بغرض إقامة علاقاتٍ تجارية مع اليمن وشراء البُن. أسفرت الزيارة عن توقيع معاهدة فرنسية يمنية، تتيح للفرنسيين شراء البُن بكمياتٍ كبيرة مباشرة من اليمن، والحصول على امتيازات ضريبية. أدّى ذلك التطور في العلاقات التجارية إلى وجود توتر بين الفرنسيين والعثمانيين الذين أقلقهم الاتفاق من تعثر وصول البُن إلى اسطنبول، وارتفاع ثمنه بسبب المنافسة؛ مما دفع العثمانيين إلى الضغط على إمام اليمن لفرض القيود على تجارة البُن مع الأوروبيين، الأمر الذي دفع فرنسا إلى إرسال حملة عسكرية إلى اليمن، وقصف مدينة المخا سنة 1737م، وهو الحادث الذي ساهم في إعادة العلاقات التجارية بين البلدين من جديد.[1]
ومثل القوى الأوروبية، سعى الروس إلى إنشاء علاقاتٍ تجارية مع اليمن مرتكزة على تجارة البُن؛ ففي كتابه «اليمن واليمنيون في ذكريات دبلوماسي روسي» يقول د.أوليغ بيريسيبكين إن الممثلين التجاريين للاتحاد السوفيتي في بداية الثلاثينات من القرن العشرين بدأوا العمل في اليمن، وكان البُن هو السلعة الأساسية التي تشتريها المؤسسات السوفيتية. يُذكر أن السوفييت وقعوا اتفاقية تعاون اقتصادية مع اليمن سنة 1956م تولوا بموجبها تقديم مساعدة فنية لبناء مرفأ في الحُديدة، وبعض المصانع والوُرش وخزانات النفط.[2]
محاولات لإحياء البُن
ما يزال البُن حالياً رمزاً وطنياً لليمن؛ ففي لقاءٍ خاص لـ”كيوبوست” مع مدير المركز الثقافي اليمني بالقاهرة، الفنان حُسين محب، قال مُحب إن البُن “يعبّر عن هوية اليمن؛ فعندما تلتقي بشخص عربي خارج اليمن فإن أول ما يسألك عنه هو البُن والعسل”. لكن زراعة وإنتاج البُن تراجع كثيراً خلال العقود الماضية، بسبب تفضيل المزارعين زراعة القات، ناهيك عن ضعف النشاط الاقتصادي والاضطرابات بشكلٍ عام. ومع ذلك، بدأت خلال السنوات الأخيرة بعض المبادرات لإحياء زراعة وتصدير البُن.
أحدث الأنشطة الرامية إلى إحياء البُن كانت في مارس الجاري، من خلال المشاركة في مهرجان التذوق بالعاصمة المصرية القاهرة، حيث أنشأ المركز الثقافي اليمني بالقاهرة، ومبادرة حراس البن الشبابية، جناحاً خاصاً بالبُن اليمني في الفعالية. كان من نتائج تلك المبادرة الشبابية، بحسب تصريح حسين محب، اعتماد الثالث من مارس يوماً وطنياً للبُن اليمني، كما نجحت الفعالية في لفت أنظار التجار والشركات ووسائل الإعلام إلى البُن اليمني.
تحظى القهوة اليوم بمكانةٍ عالمية فريدة؛ فكما تقول المغنية الأمريكية ريتا مورينو، فإن “رائحة الورد والقهوة هو ما يجعلك سعيداً”، ومن ذا الذي لا ينشد السعادة! لكن الإنتاج العالمي للبُن آخذٌ في التناقص بسبب التغيرات في درجات الحرارة، وطول فترات الجفاف، وزيادة غزو الآفات؛ مما يؤثر سلباً على أسعارها.
قد لا يبدو أن عودة ازدهار البُن اليمني سيساهم في تحسين إنتاج وتجارة البُن عالميا على المدى القصير والمتوسط، إلا أنه -بلا أدنى شك- سيعيد لفتَ أنظار العالم إلى اليمن، وتحسين قطاع الزراعة بها.