شؤون العرب والخليج
هذه هي معضلة القوة الأمريكية
أرشيفية
كتب توم ماكتاغ في مجلة "أتلانتيك" الأمريكية عن معضلة قوة الولايات المتحدة والحيرة التي يبديها حلفاؤها في التعامل معها.
الرد الغربي بقيادة الولايات المتحدة على الغزو الروسي لأوكرانيا ذكر العالم بأن النظام الدولي أكثر اعتماداً على القوة المالية والاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة مما كان عليه منذ سنوات قليلة وحسب. مع ذلك، أينما نظر المرء فسيتلمس شعوراً بأن الولايات المتحدة هي في شكل من أشكال الانحدار النهائي. هي في غاية الانقسام والعنف والاختلال الوظيفي وانعدام التناسق كي تحافظ على السلام الأمريكي العالمي. ويبدو أن موسكو وبكين تعتقدان بأن التفكك الأمريكي العظيم قد بدأ، بينما يقلق مسؤولون أوروبيون من انهيار أمريكي مفاجئ.
هذا ما اكتشفته أوروبا
سأل الكاتب السفير الفرنسي الأسبق في سوريا ميشال دوكلو عما إذا كان المسؤولون الأوروبيون يناقشون احتمال الانهيار الأمريكي على أعلى المستويات فأجاب: "لا نتوقف أبداً عن الحديث بشأنه". وحصل الكاتب على الرسالة نفسها حين تحدث مع مسؤولين وديبلوماسيين وسياسيين ومساعدين في بريطانيا وأوروبا خلال الأسابيع القليلة الماضية. من خارج الولايات المتحدة، يرى كثر في تلك الدولة حوادث إطلاق نار بلا هوادة، واختلالاً وظيفياً سياسياً، وانقساماً اجتماعياً وحضوراً في الأفق لدونالد ترامب. يضاف كل ذلك إلى انطباع في الخيال الجماعي عن دولة على حافة الهاوية تلبي جميع شروط الانزلاق إلى الاضطرابات المدنية.
لطالما اعتبر العديد من الأوروبيين التراجع الأمريكي حتمية وقد تطلعوا إلى تهيئة أنفسهم لمثل هذا الاحتمال. سعى الاتحاد الأوروبي مدفوعاً من ألمانيا وفرنسا إلى علاقات تجارية وطاقوية مع القوى العالمية المنافسة بما فيها روسيا والصين. لكن تغير كل شيء بعدما غزت روسيا أوكرانيا. فجأة، أصبحت الاستراتيجية الكبيرة لأوروبا في حال يرثى لها وبدت القوة الأمريكية تعيد تأكيد نفسها. اكتشفت أوروبا أنها لم تعد أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة بل أكثر اعتماداً عليها. في الواقع، كانت أوروبا معتمدة على الجميع: على روسيا من أجل الطاقة، الصين من أجل التجارة، وأمريكا من أجل الأمن.
عار
في السعي إلى فك ارتباط حذر وبطيء عن الولايات المتحدة، وجدت أوروبا نفسها في أسوأ العوالم. وفي محاولة يائسة للخروج من الفوضى، أجبرت على المسارعة إلى أحضان العملاق الذي تخشى أنه لا يفقد قوته ببطء وحسب بل في أنه يواجه خطر الانهيار المفاجئ أيضاً. بسبب القلق من تراجع الولايات المتحدة، تشبث جزء كبير من العالم بواشنطن بقوة أكبر من قبل. في آسيا، تبقى الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على الموازنة في مواجهة مسعى الصين إلى الهيمنة الإقليمية. في أوروبا، ثمة شيء مشابه تجاه روسيا. قال مسؤول بريطاني بارز للكاتب إنه من العار الكبير على القارة أن تكون الولايات المتحدة المنقسمة والمتراجعة والمختلة وظيفياً قد استطاعت إرسال المزيد من المساعدات الفتاكة لإنقاذ ديموقراطية أوروبية أكثر من أي دولة أطلسية أخرى.
لقاح أمريكي ذاتي
هكذا هو استمرار الهيمنة الأمريكية بشكل يجعل هوس العالم بفكرة زوالها الوشيك يبدو رد فعل مبالغاً به وأقل من الواجب في آن معاً. إن عمق المجمع الصناعي-العسكري لأمريكا وحجم بيروقراطيتها الإمبريالية ثقيلان للغاية مما يجعل من المتعذر على رئيس واحد أو على الكونغرس إزالتهما دفعة واحدة. إلى درجة استثنائية، تم تلقيح القوة الأمريكية ضد خللها السياسي الخاص، على ما أظهرته فترة حكم ترامب. ومع ذلك، إن ثقل السلام الأمريكي يعني أنه لو توقفت فاعلية اللقاح فستكون التداعيات تاريخية على المستوى العالمي. في بولونيا واليابان، تايوان وأوكرانيا، يعتمد أساس النظام العالمي على التفوق الأمريكي. لكن باستثناء الحديث عن هشاشة هذه الأسس، لا أحد يقوم بأي شيء لضمان أمنها.
حلقة مفرغة وفوضى
حسب ماكتاغ، كشف الغزو الروسي حجم ضعف أوروبا، لكن هذا الضعف نفسه يعني أنه بالنسبة إلى غالبية الدول على القارة، الأمر المنطقي الوحيد لفعله هو تفادي كل ما قد يقوض الالتزام الأمريكي. وهذا بدوره يزيد اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة ويرسخ ضعف القارة مما ينتج حلقة مفرغة. في غضون ذلك، انضمت دولتان أوروبيتان إضافيتان إلى حلف شمال الأطلسي الذي ذكر للمرة الأولى في تاريخه الصين كتهديد أمني ليضمن أهميته بالنسبة إلى واشنطن. ومنذ فبراير (شباط)، زادت الولايات المتحدة حضورها العسكري في أوروبا وبدأت الأخيرة تستورد الغاز الأمريكي.
لا يظهر الاتفاق التجاري المقترح أوروبياً مع الصين أي إشارة إلى أنه يستفيق من غيبوبته السياسية. وأبعدت بريطانيا نفسها عن بكين وعاودت مجموعة السبع البروز كمنتدى دولي أساسي للعالم الغربي كي ينسق جهوده. هبطت قيمة اليورو حتى تساوت مع قيمة الدولار، وخسر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غالبيته التشريعية وانهارت حكومة ماريو دراغي في روما وبوريس جونسون في طريقه إلى الخروج، كما تواجه ألمانيا شتاء من الاستياء بسبب نقص في إمدادات الطاقة.
تحرك خيالي؟
تابع الكاتب أن أوروبا منقسمة حول سؤال كيفية إخراج نفسها من هذه الفوضى وهي منقسمة بين أولئك الذين يظنون أن النظام الأمريكي هو الأمل الأفضل والوحيد لأوروبا وأولئك الذين يحذرون من الكارثة لكنهم غير قادرين على إقناع أحد بفعل أي شيء حيالها. يعمل الاتحاد الأوروبي بهدوء على بناء مرونة أوروبية في حال حدوث تفكك أمريكي مفاجئ أو غير مفاجئ إلى هذا الحد. يطور مسؤولو التكتل إجراءات مختلفة مثل تأسيس صناعة لأشباه الموصلات وشبكات للطاقة الأوروبية وإمكانات عسكرية-صناعية أوروبية. وتحدث مسؤولون عن خطوات أوروبية باتجاه الإندو-باسيفيك للمساعدة في حماية النظام العالمي إذا بدأت الجهود الأمريكية بالتعثر. يبدو بعض ذلك معقولاً وبعضه الآخر خيالياً وأحياناً خطيراً.
إن المحاولات لبناء قدرة صناعية-عسكرية أوروبية تعني غالباً الحمائية وجعل الأمور أصعب على شركات الدفاع الأمريكية لناحية إمداد الجيوش الأوروبية. لا يحتاج الأمر إلى أن يكون ترامب رئيساً كي يتوقع المرء مشكلة سياسية تبرز مع مواصلة أوروبا طلب المليارات من المساعدات العسكرية لحماية حدودها في وقت تنصب الحواجز أمام الشركات الأمريكية. واستسخف الكاتب بشكل كبير فكرة تدخل الاتحاد الأوروبي العاجز عن حماية جيرانه، في أقل فراغ يتركه غياب الاهتمام الأمريكي في منطقة الإندو-باسيفيك.
خيال أوروبا المريح
ثمة فهم داخل الاتحاد الأوروبي لضعفه الخاص. قال مسؤول لماكتاغ إن بناء الاستقلالية الأوروبية أصبح أصعب لا بسبب دول مثل المجر القريبة من موسكو، بل بسبب "لاعقلانية ألمانيا" التي يراها كثر الآن على أنها عقب أخيل أوروبا. يبدو أن برلين لا تريد شيئاً باستثناء عالم مفتوح كي تبيعه منتجاتها. إذا كان ذلك يعني اعتماداً على دول أخرى لطاقتها وأمنها فليكن. اليوم، يصعب رؤية وحدة إرادة سياسية على امتداد القارة لتغيير الأمور بطريقة جوهرية. وقال مسؤول بريطاني بارز إن التراجع الأمريكي هو "خيال أوروبا المريح" لأنه يجعلها تتفادى اتخاذ أي قرار بنفسها.
ذعر أوروبي وخطورة أمريكية
ربما يكون ذلك مصدر ذعر أوروبا الحقيقي: هي تصبح غير مهمة. كما حذر ماكرون، قد يكون مستقبل أوروبا قوة راكدة لا تستطيع تطوير استقلاليتها الذاتية وتصبح أقل تأثيراً بشكل متزايد في المعركة العظيمة على التفوق بين الولايات المتحدة والصين حيث سيتوجب عليها لعب دور داعم، دور الشريك الأصغر الأبدي لأمريكا. مع إبقاء روسيا في دونباس وتحذير الصين من ضم تايوان وتفوق الدولار، يبدو النظام الأمريكي مهيمناً. الخطورة هو أن كل شيء يمكن أن يكون صحيحاً في الوقت نفسه، حسب الكاتب. تبقى الولايات المتحدة قوية بشكل استثنائي لكن ذلك لا يعني أن خللها الوظيفي الداخلي واضطراباتها الاجتماعية العنيفة غير قادرة على تشتيت تركيزها عن قيادة العالم.
أمريكا هي اليوم أقوى مما كانت عليه منذ عقد وأكثر عرضة للعطب. هي ضامن النظام العالمي والمصدر الأعظم للفوضى فيه. طالما أن هذه هي الحال، سيظل المسؤولون والديبلوماسيون والرأي العام خارج أمريكا مهووسين بانهيارها – أكان سبب ذلك خوفاً حقيقاً أو توقعاً هلوسياً – ومن دون أي يكونوا قادرين على فعل أي شيء حياله.