شؤون العرب والخليج
وقع حرب غزة على العراق بين الواقع والعاطفة: لا سلم، لا حرب!
أزال العدوان الذي تقوده إسرائيل على قطاع غزة جميع الأقنعة وكشف الوجوه الحقيقية لكل من زعم انتظار ارتكاب أي حماقة اسرائيلية من أجل محو اسرائيل خلال ساعات محدودة .
بعد مرور أكثر من أسبوعين من هذا الصراع الدامي، وبالرغم من ارتكاب الجرائم البشعة ضد الفلسطينيين، وصل عدد الشهداء حتى اللحظة إلى حوالي 6,000 شهيد، نصفهم من الأطفال، إلا أن الدول المؤيدة لفكرة محو إسرائيل وتحرير القدس، لا تزال معركته مقتصرة على البيانات الإعلامية والتصريحات الغاضبة. مجرد تهديدات بتصاعد النزاع وتوسيعه في حال استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في قتل الفلسطينيين، فيما يعتبر هذا النزاع الأسوأ الذي تشهده فلسطين منذ النكبة في عام 1948.
حرج رسمي وحزبي
بالنظر إلى إعلان النظام في إيران والأحزاب الحاكمة في العراق ولبنان دعمها اللامحدود لحماس وللمقاومة الفلسطينية بشكل عام، وتكرار الكلام عن "ساعة الصفر لتحرير فلسطين"، لا شك أن هذه الأطراف تجد نفسها اليوم في موقف محرج أمام جماهيرها ومنافسيها ومعارضيها على حد سواء.
في العراق، دائما ما كان الإطار التنسيقي الذي يتولى السلطة يقول إن أسلحة فصائله المسلحة موجهة حصرًا لمحاربة ما يُسميه بـ"الاحتلال الأمريكي في العراق والمنطقة"، وأيضًا لمكافحة الاحتلال الإسرائيلي ولدعم المقاومة الفلسطينية. إلا أنه، حينما حلت ساعة الصفر فعليًا في إطلاق عملية "طوفان الأقصى"، دارت المعارك في التصريحات الإعلامية والتغريدات وصارت هي السمة البارزة بدلاً من الدعم الفعلي في هذا الصراع.
يبدو أن هذه القوى تقتفي أثر محركها الأساسي، إيران. منذ بداية النزاع في غزة، قامت إيران، من خلال وزير خارجيتها أمير عبد اللهيان، بإطلاق سلسلة من التصريحات الدبلوماسية الحادة لإدانة إسرائيل بدلًا من الدعم العسكري الفعلي في ساحة المعركة. إيران كانت دائمًا تتوعد إسرائيل في الماضي بالقوة، لكن تصريحات عبد اللهيان في الأسابيع الأخيرة تظهر تراجعًا واضحًا في مستوى التصريحات، إذ قال في تصريحه الأخير: "إن المقاومة حق مشروع، لكن إيران لا ترغب في توسيع مساحة الصراع"، و كأنه يقول لحماس ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) !
إن إيران كفاعل أساسي ومحرّك للمحور، تتطلع إلى تحقيق أهدافها دون السماح بتصاعد الصراع إلى أراضيها أو للمساس بمصالحها الإقليمية، وعليه، تتبع أذرعتها في المنطقة سياساتها بشكل مشدد. فبما أن إيران لا تريد حدوث أي صراع يمتد لأراضيها او لمصالحها في المنطقة فإنه من الطبيعي أن تنفّذ أدواتها في المنطقة الأجندة بحذافيرها، سواء بما تريده إيران أو حتى لا ما تريده.
على سبيل المثال، تدرك الأحزاب التي تسيطر على السلطة في العراق أن أي تصاعد للنزاع قد يهدد مصالحهم وعلاقتهم بالولايات المتحدة. وبالواقع، تسيطر الولايات المتحدة على الاقتصاد العراقي بشكل كبير من خلال تحكمها في العملة الصعبة وفرضها قيودًا على حركتها. الأمر الذي يجعلها قادرة على مراقبة وتوجيه العديد من جوانب السياسة العراقية والاقتصادية.
بشكل عام، يمكن القول إن إيران تحاول تحقيق أهدافها في المنطقة من خلال التأثير على شركائها والأطراف المرتبطة بها بطرق تتناسب مع مصالحها وتفادي التصاعد إلى مستوى يمكن أن يعرض مصالحها الإقليمية والداخلية للخطر.
اما القرار الرسمي العراقي المتمثل بالحكومة العراقية فيحاول جاهداً الموازنة بين ما يفرضه الواقع وما تسوقه العاطفة، ففي خطاب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في مؤتمر السلام في القاهرة، كانت هناك تصريحات رسمية عراقية واضحة بالوقوف مع المقاومة الفلسطينية وإدانة اسرائيل على جرائم الحرب التي ترتكبها في غزة. حتى أن حديث السوداني قد تسبب بضجة إيجابية لصالحه في الأوساط الشعبية استمرت ليومين في العراق، حتى أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي قد انشغلت بشجاعة الخطاب أكثر من انشغالها بما يحدث في غزة من جرائم حرب اسرائيلية بحق الفلسطينيين!
وهنا يتساءل مراقبون، ما الجدوى من التصريحات والخطب النارية التي كانت تُلقى في القمم العربية السابقة كي تجدي الخطابات الحالية نفعاً؟
إلى ذلك، فإن ما يفرضه الواقع والمصالح السياسية للعراق والديمومة السلطوية للإطار التنسيقي، جعل من رئيس الوزراء العراقي يصدر امراً بملاحقة مطلقي الصواريخ على القواعد العسكرية الأمريكية في العراق، وذلك بعد اتصال هاتفي مع الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، إضافةً إلى أن بعض الفصائل المسلحة بالفعل قد أنكرت قيامها بضرب هذه القواعد العسكرية، عدا ذلك فإن فصيل النجباء اصدر بيان أصر فيه على اخراج القوات الأميركية من العراق تماشياً مع قرار مجلس النواب العراقي عام 2020 بعد حادث اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني و ابو مهدي المهندس في مطار بغداد عبر طائرة مسيرة أميركية.
وفي هذا السياق، قال المراقب للشأن السياسي علي الكاظمي في حديث خاص لـ" جسور" إن "تبريرات محور المقاومة بالعراق، قائمة على انها تراعي الوضع العام و أنها باتت تملك كياسة سياسية وتمارس البرغماتية السياسية بأقصى درجاتها، وتحاول تقديم نفسها بأنها تعلمت من التجربة الإيرانية. وتقوم هذه القوى دوماً بإلقاء اللوم على الدول العربية في تقاعسها عن الدفاع عن القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين، غاضة البصر في الوقت ذاته أنه في ساعة الحسم الجارية الآن فعلاً قد تراجعت أيران عن المضي في مشروعها التاريخيّ الذي تسوقه منذ أربعون عاما في قضية تحرير فلسطين."
وأضاف الكاظمي "إن محاولات تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية، كانت السبب الرئيسي في وجود مشاكل داخلية في الدول العربية مما جعلها منشغلة داخلياً بمواجهة حركات سياسية ممولة إيرانياً كما في مصر والسعودية والبحرين وغيرها من الدول العربية، مما أوجد حالة من الانشغال والانقسام العربي في التعامل مع القضية الفلسطينية مما جعل إيران هي المتصدر في هذه القضية العربية الحساسة".
وأردف الكاظمي "سيكون الإطار التنسيقي بعيداً عن التصعيد العسكري، وسيقتصر دعم العراق لفلسطين عبر المساعدات المالية والسياسية ولن تكون هناك مواجهة عسكرية حقيقية ضد المصالح الأمريكية في العراق، وهذا يدلل على تبني الإطار لمشروع الحفاظ على السلطة وعدم التفريط بها بسبب الدخول في هذا الصراع".
بهذا فإن المنتظم السياسي العراقي "الحالي" الذي عماده الإطار التنسيقي الشيعي الضام لفصائل مسلحة يحسب حساباً كبيراً لتداعيات التدخل المباشر في هذا الصراع إن كان على الجبهة السورية "الصامتة" أساساً رغم القصف الاسرائيلي المستمر على المنشآت العسكرية السورية من مطارات وقواعد، وكذلك على الجبهة اللبنانية التي تشهد توتراً ملحوظاً لا ترقى أن تكون معركةً حقيقة، لكن بوجود ضربات للقواعد العسكرية الأمريكية في العراق تنفي الفصائل صلتها بها اساساً .
وفيما تواردت أنباء عن وجود بعض قيادات الفصائل العراقية المسلحة ناشطة في الجبهة الجنوبية للبنان لدعم حزب الله، حتى أنهم شكلوا غرفة عمليات عسكرية موحدة في مواجهة اسرائيل، إلا أن السياسي اللبناني ناصر قنديل المقرّب من حزب الله قد نفى وجود أي غرفة عمليات موحدة مع فصائل عراقية او يمنية، وقال في لقاء تلفزيوني قبل أيام، إن "من أتى من العراق واليمن هم بضع أشخاص لا يتعدون أصابع اليد الواحدة، وقاموا بزيارة الجبهة الجنوبية ومن ثم عادوا إلى المطار متوجهين لبلدانهم".