الإخوان المسلمون

الكاتبة المصرية نوال السعداوي: كلينتون شجعت على انتخاب الإخوان

هبة ياسين

اختارت مجلة تايم الأميركية الكاتبة المصرية نوال السعداوي ضمن أهم 100 امرأة كان لهنّ تأثير على مدار قرن كامل، وذلك لجهودها في مجال الدفاع عن قضايا تحرر المرأة ومجابهة سطوة التيارات المتشددة. والتقت “العرب” نوال السعداوي في حوار بدأ بالحدث عن التكريم، وتشعّب ليصل إلى المعارك التي خاضتها السعداوي ضد السياسيين ورجال الدين وكلّ من رأى في أفكارها تهديدا. ورغم معاناتها من المرض لا تزال السعداوي تحتفظ بذاكرة حديدية، وتتذكر كيف تم استهدافها بسيل من قضايا الحسبة وإسقاط الجنسية بسبب مؤلفاتها وأفكارها.

متمردة مصرية حاربت الذكورية والتطرف بالعلم والقلم

على فراش مرض عضال يعوقها عن الحركة تلقت نوال السعداوي نبأ اختيار مجلة تايم الأميركية لها ضمن أكثر 100 امرأة مؤثرة في العالم على مدى مئة سنة. واعتبرت المجلة هذا التكريم، الذي جاء بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، تذكيرا بسيطا برحلة المعارك التي خاضتها السعداوي دعما لقضايا المرأة، وفي مواجهة توظيف الدين وارتباطه بالسياسة وعدم الاعتراف بالسلطة الذكورية وكل الممارسات المجتمعية التي تحجر على الفكر وحرية العيش والتعبير.

ظهرت السعداوي على غلاف تايم بشعرها الأبيض وبشرتها السمراء وملامحها الحادة المتمردة، نقلا عن صورة شهيرة لها تعود إلى عام 1981، حين تعرضت للسجن في خضم معركة ضد شيوخ الدين بسبب ختان الإناث. واتخذت الكاتبة، التي خصّت “العرب” بحوار كسرت به اعتزالها الأحاديث الصحافية منذ سنوات، من محاربة ختان الإناث ومختلف الممارسات التي تقمع المرأة، طفلة وشابة، وزوجة وأمّا، معركة وجودها التي لم تتأثر لا بالسحن ولا بفتاوى التكفير والتهديدات.

لم تفقد السعداوي، التي ضعفت قوة بصرها بسبب تشخيص طبي خاطئ وتعرّضت قدمها لكسر يمنعها من الحركة منذ عام كامل، قوة شخصيتها المعهودة، فعقلها يدبّ بالأفكار وقلبها لا يتوقف عن التعاطف مع المرأة في أيّ مكان، وأعينها ترى بعدا أعمق من الشكل التقليدي للحروف التي أفنت عمرها من أجلها وصاحبتها في رحلة طويلة. ولا تزال المعركة الأهم للكاتبة التسعينية هي الدفاع عن حياتها كامرأة وكاتبة، ولا تزال تقتحم أعشاش الدبابير بكسر تابوهات الدين والجنس والسلطة السياسية، دون مواءمات أو إملاءات وبأسلوب مباشر لا يحمل التباسا.

قالت السعداوي، التي أخذت وقتا تستشف فيه شخصية محاورتها وتستطلع توجهاتها قبل أن تنطق بكلمة، إنها تلقت تكريما من كبرى جامعات العالم التي تدرس مؤلفاتها البالغ عددها نحو 80 كتابا وتمّت ترجمتها إلى أربعين لغة، باستثناء بلدها مصر الذي لم يكرّمها يوما، رغم أنها أفنت سنوات من عمرها في الحركة النسائية والدفاع عن حقوق المرأة وخسرت أموالها ولم تفكر في المتاجرة بمهنتها كطبيبة أو كاتبة، ولم تجن سوى التجاهل.

وصممت المجلة الأميركية 100 غلاف تصدّرت كلاّ منها صورة امرأة غيّرت وجه التاريخ. من هؤلاء النساء، الكاتبة النسوية الأميركة غلوريا جينز واتكينز، المعروفة باسم بيل هوكس، والإعلامية أوبرا وينفري، والعالمة الصينية الحائزة على نوبل للطب تو يويو، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والأميرة ديانا، ومارغريت تاتشر، وأنديرا غاندي، وهيلاري كلينتون، وجاكلين كنيدي، وميشيل أوباما، وغيرهن.

تحالف مريب

 

نوال السعداوي في تعليقها على اختيارات مجلة تايم لأكثر مئة شخصية نسائية تأثيرا على مدى قرن "يشرفني أن تكون معي على قائمة مجلة تايم فنانة مثل مارلين مونرو"
نوال السعداوي في تعليقها على اختيارات مجلة تايم لأكثر مئة شخصية نسائية تأثيرا على مدى قرن "يشرفني أن تكون معي على قائمة مجلة تايم فنانة مثل مارلين مونرو"

 

لكن، رغم إشادتها بأغلب الأسماء النسائية المكرّمة، لم تستحسن الكاتبة المصرية ورود بعض أسماء زوجات الرؤساء ضمن النساء الأكثر تأثيرا في المئة عام الماضية، واعتبرته نوعا من الإجحاف وتكريسا للنظام الطبقي الأبوي العنصري، فقيمة المرأة من نضالها وتضحياتها، ولا تنبع من مناصب سياسية وألقاب ولا من مكانة زوجها، وقالت “يشرفني أن تكون معي على قائمة مجلة تايم فنانة مثل مارلين مونرو أكثر من ميشيل أوباما”.

ثم عادت للحديث عن الحركة النسوية المصرية التي وصفتها بالميّتة في ظل التراجع الشديد الذي تشهده بفعل الخوف العام من جهة، والرغبة في الكسب والمتاجرة بقضية المرأة من جهة ثانية. فالمسؤولون عنها من “عبيد الوظيفة الحكومية يخشون عدم الترقي أو العزل من مناصبهم، والقضية لا تتعدى مجرد تجارة من قبل بعض رموز الحركة النسائية والعلمانيين”.

قالت السعداوي إن السلطة السياسية في دول كثيرة تتحالف مع الجماعات الدينية. وتتذكر كيف تعرّضت “جمعية تضامن المرأة العربية”، التي أسستها في العام 1982 تحت شعار “رفع الحجاب عن العقل”، للاستهداف الحكومي خلال عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، وتم إغلاقها ومصادرة أموالها وتحويلها إلى جمعية “نساء الإسلام” في تواطؤ واضح بين الحكومة وجماعة الإخوان.

ومثلما ترفض نوال السعداوي وتعادي المتاجرين بالدين والجماعات المتطرفة، ترفض وتعادي أيضا من تسميهم بـ”تجار العلمانية”. وأعلنت الحرب على الطرفين. ففي كتبها تشدد دائما على إدراكها التناقضات التي تقع فيها سلطة الدولة والدين فيما يخص الأحكام أو القوانين، فسلطة الدولة لم تنفصل عن السلطة الدينية في عصر من العصور، ولا في بلد من بلاد العالم، والحديث عن فصل الدين عن الدولة أكذوبة.

وتعتبر أن هناك انحرافا شديدا عن قضية المرأة الرئيسية باختزال همومها في أخبار الأزياء والطبخ ومساحيق التجميل، وينسحب الانحدار إلى اللغة والحياة الفنية والثقافية بفعل دخيلات يطلقن على أنفسهن لقب “فيمينست” أو نسويات ما جعلها تشعر بغربة حقيقية مع التراجع في الفارق الثقافي والفكري بين أجيال النساء المتتالية، وتحوّل الحركة النسوية إلى حالة نخبوية وتصدّرتها شخصيات ضحلة الفكر وسطحية الهدف.

وأشارت السعداوي في حديثها إلى أن المرأة سواء أكانت عربية أم غربية لم تتحرر بعد من كنف المجتمع الطبقي الأبوي العبودي. وتجربتها في الإقامة بالولايات المتحدة 20 عاما درست خلالها في العديد من الجامعات وألّفت مادة بعنوان “علاقة التمرد بالإبداع”، أثبتت أن جذور القهر الذكوري واحدة، والفارق فقط في أن المرأة الغربية تعيش وضعا اقتصاديا أفضل.

فترة السادات

تعرّضت نوال السعداوي خلال فتة حكم محمد أنور السادات إلى الاعتقال. لكن مؤاخذتها على حكم السادات تعود إلى سياساته التي ترى أنها تسببت في الانحدار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تعيش مصر تداعياته إلى اليوم.

تخرجت من كلية الطب جامعة القاهرة عام 1954. وغادرت في الثمانينات إلى الولايات المتحدة، بعدما استهدفها متشددون عبر قضايا الحسبة للتفريق بينها وبين زوجها الكاتب والناشط السياسي المصري شريف حتاتة (1923 – 2017) واتهامها بازدراء الأديان ووضعتها الجماعات الإرهابية على رأس قائمة الاغتيالات إلى جانب دعوات لسحب الجنسية منها، والتحريض على قتلها وتطبيق حدّ الردة.

تتذكر السعداوي حين رشحت نفسها كنقيبة للأطباء بمصر وتعرضت لهجوم وتطاول جماعة الإخوان المسلمين في بلد قدّست حضارته القديمة المرأة، وجعلتها إلهة مثل “إيزيس” ورمزا للعدل والحق مثل “ماعت”، وحتى الطب كانت رئيسته سيدة تدعى “سخمت”.

تهديد مستمر

 

نوال السعداوي تطالب بمنح الشباب والأجيال الصغيرة قدرا من الحرية للتعبير عن أفكارهم ومطالبهم

 

لم ترضخ نوال السعداوي يوما للابتزاز والخوف، رغم تعرضها للتهديد والترهيب من قبل متشددين خرج بعضهم على الشاشات وطالبوا برجمها بسبب مؤلفاتها الجريئة وفي مقدمتها مسرحية “الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة”، وفيها تحدثت عن العلاقة بين الله وأنبيائه وشعوبهم.

تتذكر الناشطة النسوية ذلك الجدل قائلة إنها عوقبت جراء تلك المسرحية بشدة، وتم تكفيرها، بسبب تلك المسرحية. وقام شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي، بمقاضاتها واتهمها بالردة والزندقة، وربحت الدعوى القضائية. وحظيت المسرحية باحتفاء وتقدير غربيين، حتى أن إحدى الفرق المسرحية الإيطالية جسدتها على مسرح روما في سبتمبر الماضي، ووجهت للسعداوي دعوة للحضور، اعتذرت عنها لظروف مرضية.

لم تكن هذه هي الأزمة الأولى التي تتعرض فيها للهجوم، فقبلها منعت السلطات المصرية توزيع كتابها “المرأة والجنس” الذي ربط ختان الإناث بالمشاكل الجنسية والقمع السياسي وتردّي الوضع الاقتصادي، وتعرضت قبل ذلك للفصل من عملها في وزارة الصحة بسبب آرائها الجريئة أيضًا.

أمراض لا يداويها الطب

تعرضت بعض مؤلفاتها للحظر مثل “أوراق من حياتي” و”سقوط الإمام” والأخير تمت ترجمته لأكثر من 10 لغات واتسم بالرمزية السياسية والمقصود بالإمام، هو الزعيم السياسي الذي يستخدم الدين ويوظفه لأغراض خاصة به، مثلما فعل الرئيس الراحل محمد أنور السادات.

هجرت السعداوي مهنة الطب بعدما رأت أن الناس تمرض بسبب الفقر والجوع والجهل والقهر وليس في الطب أدوية لتلك الأمراض، وقالت “لم يبق لي من سلاح إلا القلم أدافع به عن نفسي وحريتي وحرية الإنسان في كل مكان وأعبّر به عن مأساة الفقراء والنساء والعبيد، وأقول إنني أحترم الانسان ولا أنحني للسلطان مهما كان”.

الحكومة المصرية الحالية لا تحارب المتشددين بالجدية الكافية طالما تسمح بأن يبقى السلفيون في المشهد

أكدت أن الأديان والعادات والتقاليد تمثل سطوة على المجتمع عموما، والمرأة خصوصا، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. والمهم أن يتجاوز العقل البشري هذه السطوة، فمعظم المفكرين العلمانيين في مصر يكتبون نقدا للأديان وسرعان ما يعودون إليها، فالدين متجذر في أفكارهم خشية فقدان مكتسبات أو مناصب.

واسترجعت ذكرياتها أثناء ثورة الـ25 من يناير 2011 في ميدان التحرير حينما ظهر أصحاب الذقون الكثيفة واللحى الطويلة في ميدان التحرير والذين لم يعرفهم المصريون إلا بعد الثورة بتشجيع من بعض الجهات لمناطحة الإخوان.

وقالت إن الأميركيين والرأسمالية العالمية ونظام الرئيس الأسبق حسني مبارك شجعوا السلفيين لضرب الثورة المصرية في مقتل، مؤكدة على أنها شاهدت بعينيها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في ميدان التحرير للحث على انتخاب الإخوان والسلفيين، “قلت ذلك في أحد المؤتمرات الدولية في السويد وتعرضت لهجوم بالغ”.

تمرد منذ الصغر

تحمل نوال السعداوي جينا ثوريا ومتمردا ورثته عن والدها الذي كان ممن ثاروا ضد الاحتلال البريطاني لمصر وشارك في ثورة 1919، وكعقاب له تم نقله إلى قرية صغيرة في شمال القاهرة وحرم من الترقية لمدة 10 سنوات، وجدّتها التي لم تعرف القراءة والكتابة قادت تمردا في قريتها “كفر طلحة” في محافظة القليوبية المتاخمة للقاهرة ضد سياسات العمدة الذي تعمّد إفقار أهلها.

وكشفت أن أسرتها هي السبب فيما وصلت إليه جدتها، حيث واجهت سطوة ونفوذ عمدة القرية الذي يسرق قوت أهلها، لترسخ في ذهنها عبارة لا تزال تحفظها بأن “الله هو العدل.. وعرفوه بالعقل”.

ووالدها خريج الأزهر كان يخبرها بأن الله ليس كتابا تتمّ طباعته، لكنه في الوقت نفسه كان يفرّق في المعاملة بينها وبين شقيقها لكونه ذكرا فيمنحه ضعف ما يمنحه لها رغم تفوّقها في الدراسة ورسوب شقيقها المستمر، فكتبت حينها أول رسالة تمرد لطفلة غاضبة تحولت إلى منهج حياة لمكافحة القهر.

 

ولفتت الكاتبة، التي تعتبر صفحتها الرسمية على فيسبوك وتضم نحو 196 ألف متابع جسرا للتواصل بينها وبين قرائها وتحظى منشوراتها ومقالاتها باهتمام وتفاعل إيجابي كبير بين الشباب، إلى أنها كانت حريصة على متابعة كل التفاعلات والتعليقات والمناقشات، لكنها توقفت عن ذلك بسبب متاعب في بصرها.

وأكدت السعداوي أن تعلق الشباب بما تكتب وتفاعلهم الإيجابي يمنحها أملا تعيش على نفحاته، في مواجهة من اغتالوها أدبيا ومعنويا عبر مهاجمتها باستمرار وإشاعة أخبار كثيرة حول وفاتها.

تحظى الناشطة النسوية بتقدير بالغ في دول المغرب العربي، خاصة تونس والمغرب، وبرّرت ذلك بأن المغرب فيها فلاسفة من النساء والرجال نظرا لقربها الجغرافي من أوروبا وحركة الترجمة النشطة وإتقان اللغات الأجنبية، كالفرنسية فهي تمكنهم من التعرف على المعارف والثقافات الأخرى.

لم تكن نوال السعداوي يوما منعزلة عن محيطها ولم تتّبع النظرة النخبوية الفوقية في الأبراج العاجية، بل كانت مشاركة وفاعلة في كثير من الأحداث الميدانية وتشتبك مع واقعها في الريف أو الحضر وتتواصل مع الجماهير، وتطالب بمنح الشباب والأجيال الصغيرة قدرا من الحرية للتعبير عن أفكارهم ومطالبهم، وأن يحترم قادتهم عقولهم، فالشباب والأطفال أذكياء بالفطرة ولا يمكن نيل ثقتهم إلا بالعقل.