تسلل خارجي بطيء اخترق مراكز القوة الأكثر تحصينا في إيران..

الجواسيس يتغلغلون في معاقل النظام الإيراني

طهران

تسوّق البروباغندا الإيرانية صورة مفادها أن نظام الملالي محصن ومنيع عن الاختراق، غير أن شبكات التجسس التي ما فتئت تخترق نواته الأكثر تشددا والتصاقا بمشروع ولاية الفقيه، الحرس الثوري والأوساط الدينية المتشددة، كشفت حقيقة هذه الادعاءات والمغالطات. وفي تأكيد على خطورة الوضع دق وزير الاستخبارات الإيراني محمود علوي ناقوس الخطر، معتبرا أن مسألة الجوسسة باتت تهدد وجود النظام برمته، خاصة وأن طهران تلقت في السنوات الماضية ضربات موجعة وخسائر فادحة أدت إلى اغتيال علمائها وإفشاء أسرار برنامجها العسكري.

دأبت إيران في إطار مشروعها التوسعي في منطقة الشرق الأوسط على الاعتماد على الجوسسة كوسيلة لاختراق صناع القرار والدوائر الرسمية الضيقة في البلدان المجاورة، من خلال توظيف الموالين لها من تنظيمات وشخصيات، لكن مسؤولي نظام طهران لم يدر في خلدهم أن طريقتهم في التعامل تلك سترتد عليهم لتصبح أداة مستخدمة لاختراق مراكز النظام الأشد ولاء وتحصينا.

هذا ما كشفت عنه مجلة فورين بوليسي الأميركية في تقرير للمختص في الشؤون الإيرانية وطالب الدكتوراه في جامعة لوند في السويد، ميسم بهرافيش، مبرزا أن استخبارات دول غربية مناوئة لسياسات طهران توصلت إلى اختراق مراكز القوة الأساسية داخل النظام عبر زرع جواسيس لها، أساسا ضمن جهاز الحرس الثوري والدوائر الدينية المتشددة.

العدو في الداخل

كشف التقرير أن هذا الاختراق أثار هلعا في صفوف القيادة الإيرانية، ما دفع بوزير الاستخبارات محمود علوي إلى دقّ ناقوس الخطر على القنوات التلفزيونية يوم 24 أغسطس الماضي.

واعتبر الوزير الإيراني أن من أسماهم بـ”الأعداء (الجواسيس) أصبحوا أقرب مما كانوا عليه في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية، إذ اقتربوا من المطلعين على ما يجري في البلاد”.

وبيّن علوي المقرب من المرشد علي خامنئي، أن الجواسيس باتوا موجودين في مراكز “قوة متشددة مثل الحرس الثوري الإيراني” الذي يدير منظمته الاستخباراتية الموازية الخاصة.

ويفيد بهرافيش أن الوزير الإيراني كشف أن السلطات العليا في البلاد تفاجأت من محتويات تقارير أعدتها وزارته حول تموضع الجواسيس داخل الحكومة.

وذكر أنه كرد فعل أولي على حجم الاختراق الأمني الهائل، من خلال تموقع الجواسيس داخل أجهزة الدولة، سارعت سلطات طهران إلى الإعلان عن تشكيل إدارة مختصة في تسلل الجواسيس داخل وزارة الاستخبارات تتمثل مهمتها الرئيسية في مراقبة أجزاء الدولة “الثابتة” (أو غير المنتخبة) عن كثب عوضا عن التركيز على تلك “المتغيرة” (أو المنتخبة).

 

ويبرز التقرير أن الوزير الإيراني يرجح أن الأجهزة الثابتة للدولة فيها “الآلاف من العناصر المعادية التي تدعمها وكالات الاستخبارات الأجنبية، بعد أن زرعوا أنفسهم على مدى العشرين سنة الماضية ضمن إستراتيجية تسلل بطيئة”.

ويشير علوي إلى أن الجواسيس لا يتمركزون بين أولئك الذين بدوا متعاطفين مع دول أجنبية علنا، بل على العكس، حيث قال “عادة ما يتبنى المتسللون أهم الشعارات الثورية ويتهمون الآخرين بسرعة كبيرة قبل أن يجدوا أنفسهم محل شكوك”.

وبعد هذه التصريحات بفترة قصيرة، أسرع الحرس الثوري الإيراني الذي يشرف عليه المرشد الأعلى علي خامنئي مباشرة بإجراء تعديلات تمسّ بعض القادة البارزين. وكانت التغييرات تهدف إلى معالجة الهفوات الأمنية السابقة بعد أن فشلت المخابرات الإيرانية في توقع بعض الهجمات ومنع حدوث بعض الخسائر الكبيرة في صفوفها.

وتلقت إيران العديد من الضربات الموجعة والخسائر الفادحة جراء تمكن شبكات جوسسة من اختراق مؤسساتها المهمة، حيث تم اغتيال “أبوالصواريخ الإيرانية”، الجنرال حسن طهراني مقدم، في سنة 2011 وعدد من معاونيه بعد انفجار استهدف منطقة قريبة من العاصمة طهران. وامتدت العمليات لتستهدف عددا من العلماء النوويين الإيرانيين الذين اغتيلوا بين سنتي 2010 و2012. حيث نجح جهاز الموساد الإسرائيلي في اغتيال العديد من العلماء من بينهم داريوش رضا نجاد ومسعود علي محمدي ومجيد شهرياري، فيما فشلت محاولة اغتيال العالم النووي فريدون عباسي، الذي قفز وزوجته من السيارة قبل انفجارها.

وبالإضافة إلى الخسائر البشرية، نجحت إسرائيل في عملية سرقة تاريخية مكنتها من الحصول على كنز من الوثائق النووية الإيرانية السرية، تمثلت في استخراج أكثر من نصف طن من المحفوظات النووية الإيرانية خلال السنة الماضية. وهي العملية التي قال عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “إنها تضمّنت دخول عناصر من الموساد إلى طهران ثم إلى المنشأة أين تمكنوا من تحميل الوثائق وشحنها إلى إسرائيل في نفس الليلة”.

وتشير مثل هذه الإخفاقات إلى خلل في عمل أكثر أجهزة الدولة سرية. وتنتشر بين أوساط الجمهور الإيراني رواية مفادها أن الجواسيس يتمركزون بين المتشددين، وتحوّل وصف “أوكار التجسس الحقيقية” للإشارة إلى الهيئات الحكومية الأكثر ثورية في مبادئها.

ففي أواخر شهر أغسطس، انشق الصحافي أمير توحيد فاضل الذي كان يعمل في وكالة أنباء موج المتشددة إلى السويد. وكان الصحافي يتمتع بأوراق اعتماد قوية بين المتشددين، واكتسب ثقة شخصيات وأعضاء مؤثرين في جهاز الأمن بعد أن وظّف علاقاته الإعلامية لتعزيز مصالحهم السياسية وسط المنافسات الشرسة بين الفصائل. لكنه أثار من خلال طلب اللجوء في السويد أسئلة حول إخلاص المتشددين في دوائر الحكومة “الثورية” الداخلية وموثوقيتها.

وفي غضون أيام من انشقاق فاضل، ألقي القبض على عدد من الذين يلقون الخطب الدينية ويحتفلون بإنجازات الشخصيات الشيعية في التاريخ للاشتباه في تورطهم في التجسس لصالح إسرائيل.

وقبل سنتين، اعتقل 3 آخرين مرتبطين بميليشيا الباسيج بتهم مماثلة. وغالبا ما يعتبر المقربون من الهيئات الحكومية المتشددة مثل مكتب المرشد الأعلى، محصنين ضد الاختراق والارتباط بشبكات الجوسسة التي تستهدف النظام. وبالتالي لم يكونوا محل متابعة ومراقبة من قبل الأجهزة الحكومية المختصة في الكشف عن التجسس، لكنّ قصصا كثيرة تثبت أن هذه المراكز أضحت أوكار التجسس القابلة للاختراق.

وتعد قصة الصحافيين السابقين في موقع إلكتروني متشدد تابع للحرس الثوري الإيراني يدعى “عماريون”، محمد حسين رستمي ورضا غلبور، مدهشة. فالإثنان سجنا في أواخر سنة 2016 بتهمة التجسس لصالح إسرائيل. وكانا من الموثوق بهم الذين يتمتعون بعلاقات وثيقة بكبار مسؤولي الحرس الثوري.

عمل رستمي كمقاتل شبه عسكري في الحرب الأهلية السورية في فيلق تابع للحرس الثوري. ونشر غلبور كتاب “التنصت على الأشباح” في سنة 2002 أين انتقد أداء وزارة الاستخبارات الإيرانية في عهد الرئيس الإصلاحي السابق محمد خاتمي. ووفقا لمصدر من داخل دوائر متشددة من النخبة، كلّف الحرس الثوري الإيراني غلبور بـ”مهمة تخريبية” تقوّض مصداقية وزارة الاستخبارات التي اعتبرها “هيكلا ثوريا منافسا” غير موثوق به.

وقالت المجلة الأميركية إن “هذا البرنامج كان حساسا وتطلّب درجة عالية من الثقة”. لهذا السبب، شكّلت اتهامات التجسس صدمة للكثيرين وأثارت تساؤلات حول مصداقية الحرس الثوري الإيراني وكفاءته، حيث سمح لـ”خائن” بالعمل ضمن صفوفه الأعمق لسنوات. لم يكن غلبور جاسوسا بالمفهوم التقليدي، حيث يقال إنه سرب معلومات استخباراتية حساسة لإسرائيل مقابل الحصول على ميزة شخصية أو تنظيمية.

ونشرت وسائل الإعلام المتشددة التهم الموجهة إليه بموافقة الحرس الثوري الإيراني من أجل تخويف المسربين أو المتسللين المحتملين.

وكشف الصحافي غلبور في تسجيلات صوتية مسربة له من سجن “إيفين” عن شبكات الفساد الواسعة في إدارة الاستخبارات لدى الحرس الثوري والقضاء، أين يهيمن المتشددون المقربون من خامنئي.

ولاء الكوادر

 

أوضح تقرير الفورين بوليسي أن القادة الإيرانيين يخشون أن يدفع التشكيك في المتشددين إلى إضعاف قاعدة دعمهم وتخفيف حدّة قبضتهم على السلطة، لذلك ترفض القيادة الإيرانية العليا الرأي القائل إن “أوكار التجسس” الحقيقية تكمن في معاقل الدولة المتشددة.

وتمثل الأوساط المحافظة القواعد الصلبة لنظام طهران لذلك يعمل خامنئي على تعزيز مكانتها وولايتها. ويرفض الاتهامات الموجهة إليها، باعتبار أن اهتزاز صورتها يؤثر على وضعه بشكل مباشر.

ففي خطاب ألقاه في 26 سبتمبر، حث المرشد الأعلى السلطات الإيرانية على توظيف “قوى متدينة وثورية” في “مراكز الدولة الحرجة”، لأنها تشمل نفس الأشخاص الذين تحركوا للدفاع عن الجمهورية الإسلامية خلال الاحتجاجات الشعبية في سنتي 2009 و2017 ضد الأعداء.

وكانت احتجاجات سنة 2009، المعروفة باسم “الثورة الخضراء”، نتيجة للتشكيك في نزاهة الانتخابات الرئاسية الإيرانية، حيث يشتبه في تزويرها لصالح محمود أحمدي نجاد.

وامتدت حركات المعارضة التي نددت بنتائج الانتخابات والقمع العنيف الذي اعتمدته الدولة في مواجهة الاحتجاجات على مساحة واسعة خلقت مخاوف جدية في صفوف المسؤولين الذين أدركوا احتمال العصيان والانقلاب داخل نظام الأمن والمخابرات الوطني. لذلك، وبناء على أوامر خامنئي، تعامل الحرس الثوري الإيراني مع هذا الاحتمال من خلال تطوير وحدة استخباراته الخاصة ليصبح منظمة أكبر توازي وزارة الاستخبارات في ثقلها.

وقرر خامنئي تعيين رجل دين كبير يدعى حسين طائب لرئاسة هيئة الاستخبارات التابعة للحرس الثوري الإيراني. وكان شريكا وثق به خلال السنوات التي تلت الثورة. ويتمتع طائب بخبرة في مجال مكافحة التجسس بالإضافة إلى ميزة العلاقات الوثيقة التي تجمعه بخامنئي والحرس الثوري الإيراني.

وجعلت هذه المؤهلات التي دعمت سجله المتشدد في التعامل مع العناصر المعادية للثورة من هذا الشخص خيارا مناسبا لتنظيم حملة الاستخبارات والأمن لقمع الاحتجاجات التي جاءت بعد انتخابات سنة 2009 والتي أسمتها الحكومة الإيرانية رسميا بـ”الفتنة الخضراء”. وبدعم من المرشد الأعلى، ساعدت منظمة الاستخبارات في الحرس الثوري الإيراني في حماية المؤسسة المتشددة (التي يشار إليها محليا باسم “الدولة العميقة” أو “نواة القوة” في الجمهورية الإيرانية الإسلامية) ضد التهديدات السياسية والأمنية في الداخل والخارج. وبذلك، اتبعت المنظمة أجندة سياسية واضحة تتمحور حول تمكين ركائز الدولة الثورية وتهميش منافسيها.

وتتعاون وكالات الاستخبارات الإيرانية المتنافسة في القضايا الحيوية التي تتعلق بالأمن القومي. لكن، تحول تركيز مهام منظمة الاستخبارات في الحرس الثوري الإيراني إلى حماية جوهر الجمهورية الإسلامية الثورية من العصيان وحتى التمرد داخل صفوف الاستخبارات الحكومية والجيش.

وكانت وزارة الاستخبارات، التي اقتربت من الجناح المعتدل للمؤسسة خلال فترة رئاسة خاتمي، “تصنع” جواسيس دوريا لأغراض سياسية وخوفا من أن تخسر مركزها في الجمهورية الإيرانية. لكن، تعدّ حملة مكافحة التجسس الحالية التي تركز على القوى الثورية مذهبا جديدا. فبالنسبة لوكالة ذات أهمية حيوية مثل منظمة استخبارات الحرس الثوري الإيراني التي عانت من إخفاقات أمنية متكررة، يخلّف ترك هذه الإخفاقات بلا إجابة تكلفة سياسية كبيرة للقيادة الإيرانية مع تزايد خطر تآكل سلطة المؤسسات المتشددة والروايات الثورية.

بارانويا النظام

 

شكلت الجوسسة بارانويا حقيقية لنظام طهران في تعامله مع السفارات والوفود الأجنبية كما مع الكفاءات الإيرانية التي تتعاون مع جهات خارجية أو تحمل جنسية مزدوجة. فقبل أربعين عاما، أوعز الحكام الجدد لإيران لمجموعة تُدعى الطلاب المسلمين تابعين لخط آية الله الخميني باقتحام السفارة الأميركية في طهران واحتجاز موظفيها كرهائن، معتبرين السفارة الأجنبية بأنها “عرين للتجسس”.

وهي عملية خلقت أزمة دبلوماسية حادة بين إيران والولايات المتحدة بعد أن تواصل احتجاز الرهائن 444 يوما من 4 نوفمبر 1979 حتى 20 يناير 1981. وبقيت آثار أزمة الرهائن بارزة على علاقات إيران مع الولايات المتحدة إلى اليوم، وإن كان تأثيرها أقل وضوحا في واشنطن. وبقي الحدث يرمز إلى رؤية الحكومة الإيرانية للمخابرات والاستخبارات المضادة.

ومنذ اقتحام السفارة، واصلت جمهورية إيران الإسلامية بحثها عن الجواسيس والمتسللين أينما كان أثر الغرب قويا. وامتدت هذه الفكرة لعقود بعد أن عززتها أيديولوجيا النظام.

واعتقلت السلطات الإيرانية الناشط البيئي كاووس سيد إمامي وزهرة كاظمي، وهما كنديان من أصول إيرانية، وتوفيا داخل السجون، الأمر الذي لاقى تنديدا دوليا كبيرا.

كما احتجز الحرس الثوري الصحافية الروسية يوليا يوزيك بتهمة التجسس لفائدة جهات أجنبية، وهو ما فندته دوائر إعلامية تعمل معها.

ومثّلت العقلية التي أصبحت سائدة العامل الذي وجه شكوك الجهاز الأمني ​​إلى الأفراد والمؤسسات المرتبطين بالمكونات المنتخبة في الدولة التي تأسست بعد الثورة (أي الجزء “الجمهوري” من جمهورية إيران الإسلامية، الذي استمد قوته من آليات تشبه تلك السائدة في الدول الغربية الديمقراطية).

وازدادت هذه العقلية تغلغلا داخل دوائر الاستخبارات والشعب الإيراني، إذ دفعت حملة “أقصى قدر من الضغط” التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الحكومة في طهران النظام السياسي الإيراني المقسّم إلى التجانس والإجماع حول مسائل الأمن من أجل البقاء.

وفي مواجهة التهديدات العسكرية المتزايدة في الخارج وتضاعف الاضطرابات في الداخل، خلص القادة الإيرانيون إلى أنهم لن يستطيعوا مواصلة طريقهم دون التدقيق في وجود العملاء والجواسيس المحتمل في المكاتب المنتخبة في البلاد مثل الرئاسة والبرلمان أين يتمتع مختلف السياسيين الذين يتبنون المبادئ الإصلاحية بنفوذ أفضل، وفي أكثر المؤسسات التي تحمل الأفكار الثورية والمعادية للغرب في الدولة.

ويشير بهرافيش في خاتمة مقاله إلى أنه “بعد أربعة عقود من الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران، فإن القيادة الإيرانية تعمل على الحفاظ على الروح المناهضة للغرب داخل جهازها الأمني وعلى قبضتها داخل مختلف هياكل الجمهورية”، مستخدمة المعركة الهادفة لاقتلاع “عرين التجسس” الغربي ضمن السرد الذي يريد خامنئي الترويج له في الداخل والخارج، لكن الأمور بدأت تتغير مع تزايد عدد الإيرانيين الذين يروون قصة مختلفة تماما، حيث يتواجد بعضهم داخل المؤسسة الاستخباراتية نفسها.