صحيفة..

العنف في دارفور يختبر قدرة السودان على تفعيل الترتيبات الأمنية

ارشيفية

فيينا

دفعت التطورات الأمنية في دارفور بالسلطة الانتقالية السودانية إلى اتخاذ خيارات صعبة للتعامل مع الوضع المتدهور في الإقليم، وسط دعوات طالبتها أخيرا باستقدام بعثة أممية جديدة تحت البند السابع للتعامل مع الاشتباكات الدامية المتكررة.

وقرر مجلس الأمن والدفاع السوداني تشكيل قوة مشتركة من القوات النظامية وكافة أطراف العملية السلمية للتدخل السريع لحفظ الأمن في دارفور، والاستمرار في إجراءات جمع السلاح واتخاذ تدابير لمنع مظاهر الوجود المسلح.

وجاء القرار بعد أسبوع من اشتباكات قبلية دامية راح ضحيتها 132 شخصا وإصابة المئات. ولم يتطرق القرار إلى أعداد القوات وتوقيت وصولها إلى أماكن الاشتباكات، ما يشي بأن السلطة المركزية مازالت تفتقد آليات التعامل مع العنف القبلي في ولايات الهامش، وهي بحاجة إلى المزيد من الوقت للتغلب على الفراغ الذي تركه انسحاب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة “يوناميد”، التي غادرت موقعها مطلع العام الجاري.

ولم تكن هذه المرة الأولى التي تنوي فيها السلطة الانتقالية إرسال قوة مشتركة إلى مدينة الجنينة غربي دارفور للتعامل مع الاشتباكات القبلية، فقبل ستة أشهر قررت الحكومة إرسال قوة مماثلة وواجهت صعوبات في التعامل مع الأوضاع ولم تحقق الغرض منها جراء تجدد الاشتباكات على نطاق واسع.

ويجري تسليط الضوء على إرسال القوة الجديدة إلى دارفور، وهي تتكون من 12 ألف عنصر من قوات نظامية وأخرى تابعة لحركات مسلحة وقعت على اتفاق السلام في جوبا، باعتبارها مؤشرا على قدرة السلطة على إنجاز ملف الترتيبات الأمنية.

وتواجه القوات الجديدة أكثر من مأزق، لأن الاشتباكات التي وقعت مؤخرا كانت بين القبائل العربية “الزريقات”، والتي تتشكل منها غالبية قوات الدعم السريع، وبين قبيلة “المساليت” الأفريقية، وينتمي إليها عدد كبير من القوات التابعة للحركات المسلحة.

ويخشى متابعون أن تصبح القوة المشتركة شريكة في توسيع نطاق العنف وتمدده لأماكن مختلفة، ما يضاعف من صعوبة الأزمة في الإقليم ويزيدها تعقيدا.

ولم تتدرب هذه القوات من قبل على كيفية التعامل مع الاشتباكات، وتفتقر إلى خبرات إنهاء الأزمات، ومنها عناصر شاركت في حروب عانى منها الإقليم على مدار سنوات طويلة، وتغير عقيدتها لن يأتي بقرارات فوقية من دون تنسيق على الأرض.


وقال محمد الفاتح همة المحلل السياسي المتخصص في شؤون دارفور إن القوات لن تحقق الغرض من إرسالها، ويتمثل في تحقيق الأمن والاستقرار بصفة دائمة في دارفور، لأن عملها مؤقت وسوف تغادر مواقعها متى استقرت الأوضاع لعدم وجود ميزانيات تتحمل نفقاتها، ما يؤدي لاستمرار جمود ملف الترتيبات الأمنية.

وأضاف في تصريح لـ”العرب”، أن تعقيدات الأزمة في دارفور تتطلب مشاركة قوات محايدة، وهو أمر لا يتوفر في القوة المشتركة، لأن قبيلة المساليت لن تثق في أن تقوم قوات الدعم السريع بحمايتها، والعكس صحيح بالنسبة إلى القبائل العربية التي سترفض التعامل مع عناصر الحركات المسلحة.

ويذهب متابعون للتأكيد على أن قرار مجلس الدفاع قد يكون إيجابيا حال سبقته إجراءات أخرى تتعامل مع الجوانب النفسية والاجتماعية للمواطنين في دارفور، فاشتباكات مدينة الجنينة قديمة ومتراكمة، وتحتاج للبحث في جذور الأزمة وبناء جدار الثقة بين أصحاب المصلحة في المنطقة.

ولدى البعض قناعة راسخة بأن القوة المشتركة قد تكون مهددا أمنيا حقيقيا في دارفور، إذا لم تكن هناك معالجة شاملة، بما يجعل كل طرف ينفتح على التعامل مع الآخر، وأن حالة الاستنفار التي تهيمن على جميع الأطراف تقلل من إنهاء التوتر القائم.

كما أن قوى مختلفة في دارفور مازالت غير مقتنعة بالسلام الموقع في جوبا وجاء لمصلحة حفنة من قادة الحركات الذين وصلوا إلى السلطة من دون أن تنتهي معاناتهم.

وتحتاج الصراعات القبلية في ولايات الهامش لمعالجات توافقية وعملية تسوية تضم كافة الأطراف، وهو أمر لا يتحقق حاليا، ما يجعل هناك مكونات ترى أنها لم تحصل على حقها وتدفع باتجاه العنف كوسيلة للوصول إلى أهدافها.

وضاعفت هذه الهواجس عمليات التجنيد التي تقوم بها العديد من الحركات المسلحة الصغيرة في دارفور، وهي بحاجة إلى تعامل أمني محترف لتفكيك شبكاتها، الأمر الذي لا يتوافر في القوات المشتركة التي تذهب لمهمة معينة.

علاوة على أن جمود عملية إعادة هيكلة الجيوش النظامية، وتضم قوات الجيش والدعم السريع، يسهم في استمرار التوتر، لأن هذه القضية سوف تجد صعوبات جمة في مواجهة البيئة الفوضوية التي تشجع على حمل السلاح.

وأشار همة لـ”العرب” إلى أن حالة الفراغ الأمني تسببت في مقتل أكثر من 500 شخص في مدينة الجنينة وحدها على مدار العامين الماضيين، ومقتل أكثر من 1000 شخص في عموم إقليم دارفور، بما يدفع للتفكير في الاستعانة بالبعثة الأممية “يوناميد” مجددا لخفض معدلات العنف لحين إنجاز ملف الترتيبات الأمنية.

في المقابل، ثمة بعد سياسي مهم يتعلق بعدم قناعة قيادات الحركات الموقعة على اتفاق جوبا السلام أنها أضحت جزءا من هياكل السلطة ولا تثق في جديتها لحل النزاعات، وتحمّلها مسؤولية اتساع رقعة الاشتباكات مع أنها شريكة لها بحكم موقعها السياسي.

واتهم عضو مجلس السيادة الانتقالي رئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس يحيى السبت أطرافا لم يسمها بعرقلة اتفاق السلام ووقوفها خلف الصراعات القائمة وانتقد وضع الجيوش المتعددة في السودان، واتهم الحكومة بالمساهمة في بطء إنفاذ مقررات السلام، وزاد بقوله “إن ما حدث بالجنينة يمكن أن يحدث بالخرطوم”.

وأوضح أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم صلاح الدين الدومة أن انسحاب القوات الأممية من دارفور أفسح المجال لقوى تابعة لنظام الرئيس السابق عمر البشير لتحريك أذرعها بحرية، بينما لدى الحركات المسلحة رغبة في إنهاء الصراع لتتمكن من حصد نتائج مكاسب حصلت عليها في اتفاق السلام.

وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن استمرار سيطرة جهاز الأمن المركزي، وهو من بقايا نظام البشير، على قبائل دارفور يدفع نحو إثارة المشكلات القبلية، ويُصعب من مهمة القوات المشتركة التي لن تمارس مهمتها بالشكل المطلوب، لأنها ستضم أطرافا ساعية من مصلحتها إطالة أمد الصراع في دارفور لخدمة أهداف سياسية خاصة بها.