القضاء اللبناني

السياسة تعيق مسار العدالة في لبنان

يمثل التأثير المتزايد للقوى السياسية في لبنان على مجال القضاء ممارسة متجذرة منذ سنوات ويعد أحد المعاول الهدامة لاستقلال نظام العدالة. وإذ تمثل هذه الظاهرة توسّعا في تعريف القاضي المحسوب على طرف سياسي معين، فإنها كذلك تعكس درجة عالية من التطبيع مع هذا العمل عبر استنفار الأطراف الممسكة بزمام الدولة العميقة للإفلات من المحاسبة، مما جعل حل هذه المعضلة مستعصيا على اللبنانيين إلى أجل غير مسمى.

حين تضيع هيبة الدولة بين مصالح السياسيين

بيروت

 من أهم قواعد النظام الديمقراطي أن يتم الفصل التام بين السلطات حتى لا تتغول واحدة على الأخرى وتكون السيادة لحكم القانون. وهذه من الثوابت التي لا تقبل تلاعبا ولا يمكن إغفالها، لكن الأمر في لبنان يبدو مخالفا لذلك، إذا أن فتح الكثير من ملفات الفساد جعل من السلطة القضائية مسيسة تتحكم فيها بعض الأطراف لحماية مصالحها.

وخلال السنوات الأخيرة، شهدت الساحة السياسية اللبنانية عمليات تدخل متواترة في عمل القضاة لوأد ملفات حساسة. وقد بدأت هذه الأوضاع تطفو على السطح مع الأزمة الاقتصادية التي عجلت بالبحث عن خفايا تهريب أموال الشعب إلى الخارج بطرق ملتوية وجعلت مجموعة من الأشخاص تتحكم في مصير اللبنانيين.

فكما حصل مع ملف انفجار مرفأ بيروت في أغسطس الماضي، تشكل أبعاد ملف القاضية غادة عون المقربة من الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل، تأكيدا آخر على مدى إعاقة السياسة لمسار العدالة في لبنان.

قضاء موال

حتى بعد أن تم استبعادها من التحقيق في الجرائم المالية المزعومة من قبل شركة “مكتاف” القابضة لتحويل الأموال، تسير القاضية عون قدمًا في إصرارها على استكمال ما بدأته. وقد ظهرت مؤخرا أمام مكاتب الشركة خارج بيروت مع مجموعة من المؤيدين وعامل كسر الأقفال، واحتفلت معهم بكسر البوابة المغلقة.

وحصلت عون على بيانات من هذه الشركة تؤكد أنها ستكشف عن هويات الأشخاص الذين هرّبوا مليارات الدولارات من لبنان وسط الانهيار المالي الذي ضرب البلاد. وكانت هذه الخطوة جزءًا من نزاع علني بين عون والمدعي العام غسان عويدات، الذي استبعدها من القضية، قائلًا إنها “تجاوزت ما هو مسموح لها”. وتحول نزاعهما إلى شجار بين أنصارهما في الشارع.

وتقدم غادة عون، وهي قاضية التحقيق في منطقة جبل لبنان، نفسها على أنها مناضلة ضد الفساد وتتهم كبار المسؤولين بمحاولة منعها. لكن بالنسبة إلى منتقديها، فهي أداة في يد داعمها، وأولهم الرئيس اللبناني، والذين يقولون إنه يستخدمها لمعاقبة خصومه السياسيين وحماية حلفائه.

ويعتقد باسم مروة مراسل وكالة أسوشيتد برس أن هذه هي المشكلة الحقيقية الأكبر في لبنان، فالقضاء مسيّس بعمق لدرجة أنه يشل عجلات العدالة، مما يعكس كيف تؤدي الخصومات بين الفصائل إلى شل السياسة.

ولقد أدى التدخل السياسي في القضاء على مدى سنوات إلى إحباط التحقيقات في قضايا الفساد والعنف والاغتيالات. لكن انعدام الثقة في القضاء أصبح أكثر وضوحًا الآن، عندما يطالب اللبنانيون بمحاسبة السياسيين على الأزمات الكارثية التي لحقت ببلادهم ليس فقط جراء الانهيار المالي ولكن أيضًا بسبب الانفجار الهائل الذي وقع في أغسطس الماضي في ميناء بيروت، الذي قتل العشرات، ودمر أجزاء كثيرة من العاصمة. وقد تم إلقاء اللوم في الانفجار على عدم الكفاءة والإهمال.

والمناصب السياسية اللبنانية مقسمة في نظام تقاسم السلطة بين الفصائل الطائفية، وتخضع التعيينات القضائية لنفس التخصيص الطائفي. وهو ما يجعل حل ألغاز الكثير من الملفات التي تتعلق بها شبهات فساد شبيه بمن يدور في حلقة مفرغة.

وبينما تعد غادة عون المسيحية المارونية، مثل رئيس البلاد ميشال عون، وأنصارها بشكل أساسي هم أعضاء في التيار الوطني الحر للرئيس لكن الاثنين غير مرتبطين، فإن المدعي العام عويدات مسلم سني مثل رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري.

أما منصب المدعي العام المالي في البلاد – يتقلده حاليا علي إبراهيم- فهو مسلم شيعي، وتختاره الفصائل الشيعية العليا وهما أمل وحزب الله. وبالمثل، يتم تقسيم المناصب عبر التسلسل الهرمي القضائي.

ويقول المدعي العام المتقاعد حاتم ماضي لوكالة أسوشيتيد برس إن أولئك الذين تمسّكوا بالسلطة أقاموا قضاء مواليا لهم من أجل محاربة خصومهم وحماية مصالحهم. ويرى أن الحل طويل الأمد هو منح القضاء الاستقلال بموجب الدستور. وحاليًا، يخضع القضاء لسلطة الحكومة.

ويخوض الرئيس عون ورئيس الوزراء المكلف الحريري صراعا على السلطة منع تشكيل الحكومة لأكثر من ستة أشهر. ونتيجة لذلك، لا توجد قيادة لإجراء إصلاحات لإنقاذ البلاد حتى مع انهيار قيمة الليرة.

تغول الفساد

شاهد اللبنانيون بغضب مدخراتهم ورواتبهم تتدهور في القيمة والأسعار ترتفع بشكل كبير ويكافح البنك المركزي لجمع ما يكفي من العملة الصعبة لضمان توفير الوقود للكهرباء أو غيرها من الواردات الرئيسية، ناهيك عن الحفاظ على ربط العملة بالدولار منذ فترة طويلة.

ومما يثير استياء اللبنانيين بشكل أكبر، تحويل الأثرياء والسياسيين مليارات الدولارات إلى أماكن آمنة خارج البلد حتى بعد أن فرضت البنوك قيودا غير رسمية على رأس المال في بداية الأزمة، حيث لم يتمكن معظم الناس من الوصول إلى حساباتهم المصرفية بالدولار منذ أواخر عام 2019.

وكانت القاضية غادة عون تحقق في قضية بشأن “مكتاف هولدينغ” للاشتباه في أنها ساعدت في هروب رأس المال. وقد نفت الشركة، إحدى أكبر شركات المال وتجارة الذهب في لبنان، أي صلة لها بالتحويلات المشبوهة، قائلة إن “جميع الأعمال التي تقوم بها قانونية”.

ويشير المشككون إلى أن ميشال مكتاف، مالك الشركة، هو الناشر لصحيفة نداء الوطن، التي تنتقد بشدة الرئيس عون وحليفه الرئيسي، حزب الله اللبناني.

كما رفعت غادة عون قضايا ضد محافظ البنك المركزي رياض سلامة ورئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي، وكلاهما من المعارضين للرئيس. وقالت في تغريدات على تويتر إنها تعرضت للتهميش “لأنني تجرأت على فتح ملف كبير وحاولت إثبات الحقيقة بالأدلة”. وتتهم معارضيها باستخدام “اتهامات كاذبة” ضدها “لتسييس قضية العدالة”.

وبعد مداهماتها السابقة، أمرها عويدات بالابتعاد عن القضايا المالية. ثم في العشرين من أبريل الماضي، ظهر هو وعون في جلسة لأعلى هيئة قضائية في لبنان، حيث أيدوا الأمر. وفي الخارج، اندلعت مشاجرات بين أنصار الرئيس ورئيس الوزراء كادت أن تتحول إلى اشتباكات بالأيدي قبل أن يفصلهم الجيش. وفي اليوم التالي نفذت عون المداهمة الثالثة على الشركة.

وقال سامي قرا، أحد أنصار الحريري، إن غادة عون دمرت سمعتها باقتحامها للشركة. وقال صاحب المتجر البالغ من العمر 61 عاما “لقد تم استخدامها لأغراض سياسية والآن استبعدوها”.

وكانت وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم قد أكدت ذات مرة أن لبنان “يثبت أنه غير قادر على محاربة الفساد”، مشيرة إلى الانقسامات التي ظهرت في الخلاف بين عون وعويدات. وتتساءل قائلة “بعد كل ما حدث، كيف يشعر الناس أنهم يحترمون ويثقون بالقضاء”؟

ويراقب اللبنانيون عن كثب التحقيق في انفجار أغسطس الماضي لما يقرب من 3 آلاف طن من نترات الأمونيوم المخزنة بشكل سيء في ميناء بيروت. وقد أسفر الانفجار عن مقتل 211 وإصابة أكثر من 6 آلاف وتدمير الأحياء المجاورة.

واتهم قاضي التحقيق الأول وزيرين سابقين في الحكومة بالإهمال، لكن تم استبعادهما من القضية بعد أن رفع الوزراء السابقون طعونًا قانونية ضده. ويشعر الكثيرون بالقلق من أن خلفه، القاضي طارق بيطار، سيتم منعه من تحميل أي شخص المسؤولية عن الانفجار.

وقالت بشرى الخليل، وهي محامية لبنانية بارزة، إن القضاة يعرفون أنهم إذا أرادوا مناصب عليا، فلا بد أن يكونوا موالين لزعيم سياسي. وكنتيجة لهذه الحقيقة، يتوجه بعض الأشخاص مباشرة إلى السياسيين ويطلبون مساعدتهم في القضايا، بدلًا من اللجوء إلى السلطات القضائية، ويقوم آخرون بتعيين محام له صلات سياسية قوية لتخويف القضاة.