تقرير..

كيوبوست: 120 عاماً من الصراع في اليمن (2-10)

جامع البكيرية في صنعاء من آثار الدولة العثمانية في اليمن "أرشيفية"

كيوبوست

لاقت محاولات العثمانيين السيطرة على اليمن مقاومةً مستمرةً من الأئمة الزيدية، والقبائل الموالية لهم طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين. كان الأئمة يحتفظون بنفوذهم التقليدي ومقدار كبير من الاستقلالية في صعدة بشكل أساسي، بينما قسَّم العثمانيون مناطق سيطرتهم في الشمال إلى أربعة ألوية؛ هي صنعاء والحديدة وتعز وعسير.

كانت دوافع وقوف القبائل إلى جانب الأئمة متعددة؛ من أهمها مساعدة الإمام في الدفاع عن دولة الخلافة الإسلامية[1]، وسوء إدارة الحكم العثماني المتمثل في الاستبداد والفساد والمركزية الشديدة وإفقار الشعب، وحرص العثمانيين على تتريك اليمنيين.[2] ناهيك بالغنائم التي كانت القبائل تحصل عليها في معاركها المنتصرة ضد العثمانيين. وقد كان هذا التآزر بين الأئمة والقبائل نتيجة طبيعية؛ إذ إن إحدى النتائج الإيجابية القليلة للصراع هي تعزيز التلاحم بين الجماعات وتقوية مركز الزعامات.

لكن الدولة العثمانية التي أنهكها الصراع في اليمن قررت في عام 1901 تغيير استراتيجيتها من خلال مهادنة الإمام؛ فأرسلت إليه وفداً تركياً لمحاولة الوصول إلى اتفاق معه يبقى بموجبه مالكاً للمناطق التي في يده، مقابل محاربة الإنجليز في الجنوب. لكن الإمام رفض التفاوض، قائلاً إنه لا يرى الأتراك مسلمين حقيقيين، مقارناً حكومتهم بعدل الحكم البريطاني وسلامه.[3]

استمرت محاولات العثمانيين للتوصل إلى صلح مع الإمام طوال العقد الأول من القرن العشرين، إلا أن ذلك لم يمنع في نفس الوقت استمرار المناوشات بين الطرفَين؛ ففي عام 1906 مثلاً سُمي اليمن “مقبرة الأتراك” بعد معركة “شهارة” التي فقد فيها العثمانيون قوة كبيرة من الجيش تُقدر بما لا يقل عن 8000 رجل.[4]

أعداء الأمس أصدقاء اليوم

بعد عقودٍ من الصراع بين العثمانيين والأئمة الزيدية، ومَن يواليهم في شمال اليمن، تم التوصل أخيراً إلى صلحٍ بين الطرفَين في عام 1911. عُرف صلح سنة 1911 باسم صلح (دعّان)، وقد صدر بشأنه قرار سلطاني عثماني في عام 1913، وحُددت مدته بعشر سنوات. وضع صلح (دعّان) حداً للصراع؛ إذ اعترفت الدولة العثمانية بموجبه بإمام الزيدية في اليمن، واعترف الإمام بالسيادة العثمانية. اتفق الطرفان على تشارك إدارة البلاد، وتحالف الإمام مع الدولة العثمانية، مع احتفاظ الزيدية بوضعٍ خاص لهم، وقدرٍ من الاستقلال الذاتي.

كان صلح (دعّان) نتيجة لعدة عوامل؛ أهمها توصُّل الطرفين إلى قناعةٍ بأهمية تسوية الصراع. من أجل نجاح أية تسوية يتوجب على الأطراف المتصارعة الاستعداد لقبول الحل الوسط؛ تعززَ هذا المبدأ المهم بعد تكليف الباب العالي القائدَ العسكري أحمد عزت باشا، بقمع الانتفاضة في اليمن، وهي مهمة نجح فيها القائد الجديد، لكنه في نفس الوقت أبدى استعداداً أكبر من سلفه؛ لقبول تدابير مختلفة تؤدي إلى الصلح، وبذلَ في سبيل ذلك جهوداً تفاوضية، والكثير من الهدايا لإظهار حسن النية. كما أدَّت جهود الوساطة من قِبل الشريف حسين، أمير مكة، دوراً في عقد الصلح؛ حيث يتمتع الشريف حسين بعلاقة وثيقة مع إمام اليمن، وقد كان تخوُّف الشريف حسين من الإمام الإدريسي في عسير، حافزاً للتوفيق بين الأتراك والإمام.[5]

أدى صلح (دعّان) إلى تهدئة الصراع بين الدولة العثمانية وإمام شمال اليمن؛ لكن تسوية الصراعات يمكن أن ينتج عنها أطراف خاسرة أيضاً، وبالتالي تخلق التسوية مصدراً للمشكلات بسبب إحباط ويأس الخاسرين؛ وهو ما حدث في شمال اليمن، حيث أصبح الإمام خائناً في نظر حلفائه من القبائل والزعماء الذين وقفوا إلى جانبه ضد الدولة العثمانية. ازداد الغضب ضد الإمام مع تزايد رغبته في نشر وتقوية نفوذه بعد أن هيأ له الصلح الفرصة المناسبة ليحل مكان نفوذ العثمانيين، ما أمكنه ذلك.


صراع داخلي

شعر مشائخ من قبائل حاشد وبكيل، بأن اتفاقية (دعّان) غدرٌ ونكثٌ بالعهد الذي بموجبه وقفت القبائل إلى جانب الإمام والإمامة؛ وهو الدفاع عن الخلافة الإسلامية المتمثلة في الإمامة الزيدية. كان موقف القبائل متشابهاً مع موقف الإمام محمد بن علي الإدريسي، في لواء عسير؛ لذلك قرر بعض مشائخ القبائل، بالذات من قبيلة حاشد، مناصرة الإمام الإدريسي ضد العثمانيين والإمام يحيى بن حميد الدين، إمام الزيدية. كان الإدريسي إماماً سُنياً من أصل مغربي، ويرجع نسبه إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

كان الإمام الإدريسي يطمح إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية أيضاً؛ وهو السبب الذي قاده إلى التحالف مع إمام اليمن مسبقاً ضد العثمانيين. نجح الإدريسي في الاستيلاء على أجزاء واسعة من عسير بحلول عام 1910؛ لكنه لم يتمكن من إسقاط العاصمة (أبها).

حاول العثمانيون عقد صلح مشابه لصالح (دعان) مع الإدريسي، ودفعه إلى الاعتراف بالسيادة العثمانية وتقديم الطاعة للإمام يحيى؛ لكن وعلى عكس النجاح الذي حققه العثمانيون مع الإمام يحيى، فشلوا في الحصول على اتفاق معه؛ إذ كان الإدريسي بعد صلح (دعّان) يزداد شعبية وقوة من خلال التحالف مع قبائل اليمن وإيطاليا التي كانت حينها تناوئ الأتراك في ليبيا.

تزايد قوة الإدريسي عزز موقفه التفاوضي مع العثمانيين؛ وبقي مصراً على الاستقلال الإداري التام تحت سيادة اسمية ظاهرية للدولة العثمانية. رفض العثمانيون شروط الإدريسي؛ خصوصاً أنهم يرون فيه أنه دخيل على المنطقة، وليست له جذور تاريخية فيها مقارنة بالإمام يحيى إمام اليمن،[6] وهكذا استمرت الصراعات بين الإدريسي بمعونة حلفائه ضد الدولة العثمانية المتحالفة مع الإمام يحيى.


أدى تغير شبكة التحالفات في اليمن إلى تعقيد الصراع أكثر؛ ولكن، في الواقع، كانت شبكة العلاقات على مستوى العالم تمر بمرحلة من التغيير؛ إذ خلقت الحرب العالمية الأولى، التي بدأت في عام 1914، شبكة معقدة من التحالفات السياسية والعسكرية؛ كان من نتائجها وقوف الدولة العثمانية مع دول المركز ضد معسكر دول الحلفاء الذي كانت فيه بريطانيا.

حاول العثمانيون والبريطانيون الاستفادة من حلفائهم في اليمن، وفي الوقت ذاته حاولت بعض الأطراف داخل اليمن خلق تحالفات معهم للتخلص من خصومهم المحليين؛ وبذلك دخل اليمن في مرحلة جديدة ومختلفة من الصراع عند انطلاق الحرب العالمية الأولى.

[1] «مذكرات الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر». ص38.

[2] التنافس.ص 184-199.

[3] «الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية»، المجلد الأول، نجدة فتحي صفوة. ص134.

[4] «الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية»، مرجع سابق.

[5] «الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية»، المجلد الثاني، نجدة فتحي صفوة. ص 118.

[6] «المخلاف السليماني تحت حكم الأدارسة»، رسالة دكتوراه لأميرة علي المداح. ص6.