إغراءات الأزهر تجذب الطلاب إليه والحكومة تُغالي في مصروفات التعليم المدني

الإقبال على التعليم الديني يُعرقل مكافحة التطرف في مصر

فجرت مناقشات في البرلمان المصري بشأن تعديل تشريعي يستهدف إدخال تعديلات على قانون الأزهر وهيئاته استياء لدى الدوائر المطالبة بإصلاح التعليم الديني في مواجهة التطرف والتشدد حيث لم تمس تلك التعديلات جوهر المشكلة واكتفت بالأمور الهامشية.

التذمر من الحكومة في اتساع مستمر

القاهرة

أحدث التعديل التشريعي الذي أجراه مجلس النواب المصري على قانون الأزهر وهيئاته انتكاسة للأصوات التي تطالب بإصلاح التعليم الديني كمدخل لمواجهة التطرف والتشدد وتجفيف منابع التشدد، حيث اقتصرت التعديلات على أمور هامشية لا علاقة لها بصميم أزمات الأزهر.

وتعالت الأصوات مطالبة البرلمان بتعديل قانون الأزهر ومعاهده الدينية وجامعاته لدمجها في التعليم العام، والسماح للمسيحيين بالالتحاق بالكليات العملية على الأقل، وإخضاع كل المؤسسات التعليمية الدينية لقرارات الحكومة بتطوير المناهج وطرق التقييم لتخريج طالب عصري، أو غير متطرف يتلقى تعليمه أمام وعاظ دين فقط.

وتواجه الحكومة حالة غضب واسعة لتمسكها بنسف التعليم التقليدي واستحداث مناهج معاصرة تحترم الآخر وتحارب التطرف، وتكرس التسامح، وهذا يتناقض مع الأزهر وجمهوره من هواة التراث، لكن الغضب على الحكومة اشتد بسبب مقارنة مصروفات مدارسها بمصروفات المعاهد الأزهرية.

وخلال مناقشة لجنة التعليم في مجلس النواب المصري قبل أيام سبقت قرار وزارة التعليم بعدم تسليم الكتب الدراسية للطلاب قبل دفع المصروفات، أعلن أشرف رشاد رئيس الهيئة البرلمانية لحزب مستقبل وطن، الظهير السياسي للحكومة، تبرع الحزب بدفع المصروفات عن غير المقتدرين لتسليمهم الكتب.

وارتبط قرار الحزب بأن شريحة الأهالي المتذمرين من الحكومة في اتساع مستمر، لأن قيمة المصروفات التي أقرتها وزارة التعليم مبالغ فيها، ولا يستطيع الكثيرون الالتزام بها، بالتالي لا بديل عن إيجاد حل يرفع العبء عن الأسر البسيطة، ولا يكون تعليم الأبناء مرتبطا بالقدرة المالية لعائلاتهم، وذلك لامتصاص غضب الشارع.

وعلى الناحية الثانية، كان الطلاب المنتسبون للتعليم الأزهري لا يواجهون معضلة، فمصروفاتهم الدراسية لم ترتفع جنيها واحدا، وأعفت المؤسسة الدينية غير القادرين من أي التزامات مالية، لاستقطاب المزيد من الشرائح لإلحاق أولادها بالأزهر.

يمكن من خلال هذين المشهدين المتناقضين تفسير زيادة الإقبال على التعليم الأزهري في مصر. فهناك شريحة تتمسك الحكومة بأن تشارك في تحمل تكلفة تعليم أولادها، والثانية لا تتحمل الحدّ الأدنى من المصروفات وهم الملتحقون بالأزهر، ضمن الصراع الخفي بين السلطة والمؤسسة الدينية على من يكسب المجتمع لصالحه.

ويعتبر الأزهر تهافت الآلاف من الطلاب على معاهده وجامعاته بمثابة انتصار له ضد تيار الغضب المتصاعد ضده، من مفكرين ومثقفين ووسائل إعلام، بحيث تكون لديه حصانة شعبية، إذا قررت السلطة جديا أن تتدخل لتصحيح مسار التعليم الديني.

لم تُدرك الحكومة أنها عندما تقرر على ولي الأمر البسيط في التعليم العام دفع ما يقارب الألف جنيه كمصروفات للابن الواحد، فإن أغلب غير المقتدرين سيذهبون إلى التعليم الأزهري الذي يدفع طلابه خمسين جنيها فقط، وهو مبلغ زهيد للغاية، تستطيع أيّ أسرة أن توفره، حتى صارت المعاهد الأزهرية ملاذ الفقراء في مصر.

تتقاطع هذه التحركات مع مساعي الحكومة لمحاربة التطرف لأن التعليم الأزهري لا تزال مناهجه الدراسية قديمة وأسيرة للتراث، في حين تركز مناهج التعليم العام المطوّرة على تخريج طلاب ينتقدون ويحللون بعيدا عن الجمود والحفظ والتلقين.

ولا تقبل المؤسسات التعليمية الدينية في مصر أيّ طالب مسيحي، الأمر الذي صار يثير امتعاض دوائر سياسية وأصوات مجتمعية كثيرة، لأنه لا يُعقل أن تفتح المدارس التابعة للكنيسة أبوابها لكل الطلاب، مسلمين ومسيحيين، في حين تُغلق المعاهد والجامعات الأزهرية أبوابها في وجه غير المسلم، مع أنه مصري الجنسية.

يكتشف المتابع لموقف الأزهر بسهولة أنه يغازل كل المعارضين لسياسات الحكومة الرامية إلى تطوير التعليم، فإذا وجد الناس ممتعضة من طريقة الامتحانات التي تعتمد على الفكر يتراجع عن تطبيقها، وإذا رأى أن الشارع يرفض زيادة المصروفات يقوم بتخفيضها، وعندما وجد امتعاضا ضد التعلم الرقمي قرر تجميد تطبيقه.

ويرى متابعون أن الأزهر يحاول بشتى الطرق أن يثبت لدوائر صناعة القرار السياسي التي دائما ما تصفه بالجمود أن الناس هي من تحكم على ذلك، وبالتالي يعوّل على الشريحة التي يستهويها التعليم التقليدي، وهذه الفئة شغوفة بالحفظ والتلقين وإقحام الدين في مفردات حياتها بالمخالفة لمناهج التعليم العام المطوّرة، التي أبعدت الدين عن أي مادة غير التربية الدينية احتراما للمسيحيين أولا، وتكريسا للفهم والتحليل ثانيا.

ما يلفت الانتباه، أن مناكفة الأزهر للحكومة في شأن زيادة جماهيريته وشعبيته بالشارع صارت علانية، وظهر ذلك في أغسطس الماضي عندما خرجت قيادات بالأزهر، لتتباهى بهروب الطلاب من التعليم العام إلى الديني، حتى أن “المشيخة” نفسها أصدرت بيانا تفصيليا بعدد المحولين من التعليم العام إلى نظيره الأزهري.

يقوم التعليم الديني على ربط النظريات العلمية بالدين، في حين تأسست فكرة تطوير التعليم بمدارس الحكومة على تقديم إنسان معاصر يؤمن بالمواطنة لتصبح الأجيال الشابة نواة لتأسيس مجتمع يصعب اختراقه من المتطرفين.

وقال سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة إن الأزهر يعول على أبناء البسطاء للحفاظ على نفوذه من خلال استقطاب الناقمين على طريقة التطوير في المدارس الحكومية، ومع الوقت ستكون هناك أجيال مريضة بالانغلاق الفكري لاستسلامها لما يُملى عليها من أفكار دينية قديمة.

وأضاف لـ”العرب” أن الإرادة السياسية وحدها الكفيلة بتوحيد نظام التعليم في مصر، حتى لا يكون هناك جيلان، الأول يؤمن بالانفتاح لأنه درس مناهج معاصرة، والثاني منغلق الفكر ويستسلم بسهولة لسطوة الدين على الحياة العامة ليحلل ويحرم وفق ما تعلم، ما يكرس الاستقطاب على أساس ديني.

ولا تنكر دوائر سياسية أن النفوذ المتصاعد لشعبية التعليم الديني يثير استياء السلطة، لكنها تخشى الدخول في مواجهة محتدمة مع الأزهر تكون تبعاتها خطيرة، لأن المتشددين من الإخوان والسلفيين وأنصارهما يتعاملون مع عصرنة الأزهر باعتبار ذلك حربا على الإسلام، وهو ما لن تستطيع الحكومة مواجهة تداعياته.

تتناغم طريقة التدريس بالأزهر مع جماعات الإسلام السياسي التي تأسست في الماضي بطريقة التأثير في عقول الناس من خلال الوعظ والنقل الحرفي للنصوص التراثية دون نقد أو تحليل، ما يعيد إنتاج جيل جديد لا يؤمن بحرية الفكر والإبداع والتعايش والمواطنة، وينسف كل جهود تجديد الخطاب الديني.

يعتقد متابعون أن إصلاح التعليم الأزهري لا يخدم رؤى وتوجهات تيارات الإسلام السياسي المتشددة، لأنها تعوّل على خريجي هذه المؤسسات الدينية لاستمرار الانغلاق الفكري بالمجتمع، لأن كل محاولة للعصرنة والتطوير والانفتاح، تمهّد لإقصائهم كليّا من المشهد، وتكون المواجهة معهم مجتمعية أكبر منها سياسية أمنية.

وأكد محمد أبوحامد البرلماني السابق الذي تقدم بأكثر من مشروع قانون لإصلاح الأزهر، أن استمرار الاستقلالية المالية للأزهر، مع تطبيق منظومة تعليمية قديمة، يمثل عبئا على الحكومة في طريق عصرنة الفكر ومدنية الدولة، لأنه (أي الأزهر) يستقطب البسطاء والمهمشين، بينما يرى هؤلاء أن مصروفات المدارس مبالغ فيها.

وأوضح لـ”العرب” أن الأزهر بطبيعته لا يميل إلى العصرنة، وقياداته يرونها انحلالها فكريا، وهي قناعات خاطئة تنتقل بالتبعية إلى مجتمع الدارسين تحت مظلته، وعندما يتخرج هؤلاء قد يتعاملون مع غيرهم المنفتحين والمفكرين كأنهم يخالفون الإسلام، ولم يعد منطقيا أن يُحرم المسيحيون من دخول جامعات الأزهر، ويذهب الكثير من طلاب المدارس الثانوية إلى جامعات خاصة لعدم توافر أماكن لهم بجامعات حكومية.

من الصعوبة إصلاح التعليم الأزهري دون إرادة سياسية تقبل الدخول في مواجهة مع المؤسسة الدينية عبر صدور قرارات حكومية وليس من قيادات الأزهر، لإقرار نظام تعليم موحد وعصري يكرس الانفتاح ويتأسس على مدنية الدولة التي كفلها الدستور.