الفلاسفة حشروا أنفسهم بين الثنائيتين الوجود واللاوجود..

أنا أفكر إذًا أنا تائه

دون كيشوت يجسد رمزية العبثية التي تتواجد في الكثير من الناس.

وكالات

تعرفنا على شخصية دون كيشوت عبر أفلام الكرتون في طفولتنا، وكان منتهى فهمنا له أنه شخص أهبل يصارع طواحين الهواء فنضحك عليه ملأ الأشداق .
عندما كبرت وقرأت الرواية الأصلية فهمت أنه يجسد رمزية العبثية التي تتواجد في الكثير من الناس، الشخصية التي تعيش الوهم كأنها تصارع طواحين الهواء، والحقيقة أن هذه الشخصية ربما تمثل البشر جميعا فكلنا نصارع الرياح، لأننا لا نعرف حقيقة الوجود بل نعيش قوانين الوجود كما هي وفي كل مرحلة نحتاج لملهاة لكي تستمر الحياة .
في الطفولة ملهاتك هي اللعب، وفي المراهقة ملهاتك هي الطرف الآخر ذكرا كنت أو أنثى، وبعد الزواج ملهاتك الأولاد، وهكذا يخلق لك الكون دافعا دائما حتى تصل إلى الموت .
في مفهوم علم الأحياء هي طاقات محفزة لتنتقل الجينات وتستمر الحياة، ولولا هذه المحفزات والشهوات لإنقرضت كل الكائنات، وفي مفهوم الدين أنت مجرد آلة للعبادة  خلقك الله لدنيا أخرى غير هذه الدنيا الفانية، أما حقيقة الوجود فتظل لغزا عصيا على التفكير .

كثرة التفكير لن تؤدي بك إلى نتيجة، فقط ستحرمك من النوم العميق، وتجعلك أمام حقيقة "أنا أفكر إذا أنا تائه"، وستعبر هذه الحياة كأي زائر مثلك مثل من لم يتعب دماغه في التفكير، ففي الأخير كلنا عابرون

التفكير .. ذلك الشيء المزعج الذي لا بد منه، والموصل إلى الحقيقة أو الجنون والذي ينصح به أهل العلم جميعا لتتطور الحياة، إلا الأطباء النفسيون فإن أول ما يواجهونك به عندما تشكو من القلق أو قلة النوم أو الصداع أو أي شيء آخر هو قولهم لا تفكر كثيرا.
في الحقيقة كلامهم منطقي جدا لأن الدراسات أثبتت أن أي إنسان خلال حياته كلها لا ينفذ واحدا من الألف مما يفكر فيه، بمعنى أوضح فأنت تفكر قبل النوم عدة ساعات كل يوم وربما لا تنفّذ جزءا صغيرا مما فكرت فيه أو قد لا تنفذه أبدا وهكذا يصبح أكثر تفكير الإنسان عبثيا أو عبئا عليه بدل أن يكون فائدة له .
يقول ديكارت أبو الفلسفة الحديثة "أنا أفكر إذا أنا موجود"، والحقيقة يخطئ الكثيرون في فهم مغزى هذه العبارة فيعتقدون أن الرجل يشجع على التفكير ويصبح المعنى هنا رمزيا لا ماديا، أي أنا أفكر إذا أنا موجود معنويا، ويصبح نقيض الجملة حسب علم المنطق وكذلك المجاز في البلاغة "أنا لا أفكر إذا أنا غير موجود"، ويصبح المعنى مجازيا من لا يفكر كأنه لا وجود له أو جوده كعدمه لكن ديكارت لم يكن يقصد المعنى المجازي .
ديكارت كان يقصد المعنى المادي ردا على الفلسفة اللاوجودية، وهي فلسفات ومذاهب فمنهم من يربط الوجود بالوعي بمعنى ما دمت تعي الوجود، فالوجود موجود، وإن كنت لا تراه وتعيه فهو غير موجود، والبعض يقول بأن فهمنا للوجود هو حسب إدراكنا بحواسنا وليس كما هو على حقيقته،  وهناك مذهب أكثر تعقيدا ينفي الوجود أصلا ويزعم أصحاب هذا المذهب أن لا شيء موجود أساسا، وهنا يأتي رد ديكارت "أنا أفكر إذا أنا موجود"، وقد سبق مقولته بقوله "أنا أشك إذا أنا موجود"، وفي كلتا الحالتين يكون قصده ما دمت أشك في وجودي أو أفكر فيه فهذا يعني بالضرورة  أنني موجود .
بهذا المعنى ليس هناك جملة عكسية لهذه الجملة أي لا تستطيع القول "أنا لا أفكر إذا أنا غير موجود" لأنها تفقد المعنى المادي، وتدخل في الإطار المعنوي، ولكننا نستطيع أن نأخذ جملة ديكارت في إطارها المعنوي ونقول بأن من لا يفكر فوجوده كعدمه . 

الأمر ليس كذلك أيضا، كما أسلفنا، فماذا نستفيد من التفكير، إذا كنا لا ننفذ منه شيئا بل يصبح عبئا علينا وعلى صحتنا، والأهم من ذلك أننا لا نستطيع أن نفهم به سر الكون والوجود، وتمر السنين والقرون ونحن نفسره وفق الأهواء أو وفق اللغة التي اخترعناها وهي قيد أيضا تحشر الحقيقة في إطارها النسبي .
نظرية اللاوجود غير منطقية ونظرية الوجود المطلق أيضا غير منطقية، ولذلك ظلت نزاعا فلسفيا، لكن ما لم يفكر فيه أحد ماذا لو كان هناك خيط رفيع بين الوجود واللاوجود؟
ماذا يعني ذلك؟ 
ما اقصده أن الفلاسفة حشروا أنفسهم بين الثنائيتين الوجود واللاوجود، ولكن ماذا لو كنا في منطقة وسطى بين الوجود واللاوجود، فيزيائيا ليس شيئا غريبا فهو أشبه بالثقوب السوداء في الكون التي تبتلع كل شيء، ويختفي فيها كل شيء ويصبح لا شيء، أي يصبح غير موجود رغم أن الثقب نفسه موجود!
مجرد تفكيرنا في نهاية الكون من الممكن أن تدعم نظريتنا في الوجود واللاوجود، فمن المستحيل تخيل نهاية للكون أي وجود جدار نهائي، ويصبح من المنطقي التساؤل وماذا بعد ذلك الجدار ومن المنطقي أن يكون الجواب أنه لا شيء خلف الجدار أي اللاوجود، وهذا أيضا مستحيل فلا بد أن يكون هناك فراغ، والفراغ وجود وهكذا نصبح أمام اللانهائية وهنا نستطيع أن نمسك الخيط الرفيع بين الوجود واللاوجود .
القضية أشبه بتفكيرنا في الله الذي كان ولم يكن شيئا، ولكن أين كان؟ لا أحد يعلم فالكينونة تستلزم وجود مكان، فإذا كان ولم يكن الكون ولم تكن صفاته موجودة كالرحمة والعدل فإنه كان شيئا أجوف، فإذا قلنا بأن صفاته كانت موجودة، فهو إذا متأثر بصفاته، وما دام متأثرا فهو ليس كاملا، وبالتالي فمن المنطقي أن يكون هناك كون ملازم له قديم قدم الله.
في المحصلة كثرة التفكير لن تؤدي بك إلى نتيجة، فقط ستحرمك من النوم العميق، وتجعلك أمام حقيقة "أنا أفكر إذا أنا تائه"، وستعبر هذه الحياة كأي زائر مثلك مثل من لم يتعب دماغه في التفكير، ففي الأخير كلنا عابرون .