سيرة صحافي في معاقل الاستبداد..
المغامرة والخوف بين زمني هتلر وستالين
المخرجة البولندية المخضرمة آكنيسكا هولاند تستعرض جماليات السيرة الذاتية لصحافي لعب مع الكبار فخسر المستقبل في فيلم "مستر جونز".
يبدأ فيلم “مستر جونز” للمخرجة البولندية المخضرمة آكنيسكا هولاند، حيث سيكون الكاتب أولا، وهو الذي سيفتتح القصة ويطلق شرارة الأحداث. والكاتب هنا إن هو إلاّ جورج أورويل يمضي في كتابة تلك المناجاة وحيدا وسط حقل فسيح ليس إلاّ مزرعة الحيوانات من حوله والريح التي تعصف بعيدا.
الصلة مع عالم الكاتب ستنعقد عبر الصحافي الذي هو غاريث جونز (الممثل جيمس نورتون)، ذلك الشاب الذي سوف يقود الأحداث ويقلب الدراما من خلال اللعب مع الكبار.
نحن في ثلاثينات القرن الماضي وجونز دون الثلاثينات من العمر وقد عاد مزهوا بنجاحه في إجراء مقابلة صحافية مع هتلر إبّان صعود جمهورية الرايخ الرابع، وهو يعرض استنتاجاته أمام نخبة المجتمع البريطاني وبحضور رئيس وزراء بريطانيا آنذاك لويد جورج.
لا أحد سوف يصغي إلى الشاب الطموح، وخاصة عندما يقول إنني أخرج باستنتاج أن هتلر يستعد لحرب كاسحة، وعندما يسأله الحضور عن مصدر معلوماته يخبرهم بأنه غوبلز، وزير دعاية هتلر، فيزيد الحضور ضحكا وسخرية.
لا أحد سيصدّق تلك القراءة الذكية للواقع فيما أصداء كلمات أورويل تتردّد، إن حياتنا في خطر.
على هذا ستتجسد أمامنا شخصية درامية بامتياز، حيث يقود العالم أربعة أقطاب، هم: روزفلت في الولايات المتحدة وجوزيف ستالين في الاتحاد السوفييتي ولويد جورج في بريطانيا ورابعهم أدولف هتلر.
الشخصية الدرامية للشاب الويلزي الذي لا يرى أمامه من مهمة سوى كشف الحقيقة كانت كغيرها تعيش في أجواء دعائية متعارضة حينا ومتسامحة حينا آخر، ومن ذلك الرضا التكتيكي المليء بالنفاق على سياسات ستالين الاستبدادية بل المضي في ترويج أطروحاته الكاذبة والمزيّفة ومنها خطّته الخمسية التي سوف يكون الاتحاد السوفييتي من بعدها في القمة. لكن جونز لا يؤمن إلاّ بما يرى ويلمس لا بما يقال، ولهذا يقرّر شدّ الرحال باتجاه الاتحاد السوفييتي لغرض الوقوف على الحقيقة ويطلب من رئيس الوزراء لويد جورج أن يزكّيه لغرض الذهاب إلى روسيا بوصفه صحافيا.
لا شك أن التحوّل الجذري في هذه الدراما الفيلمية – البيوغرافية سوف يتحقّق بمجرّد وصول جونز إلى موسكو.
كل شيء سوف يختلف وينقلب ويتغيّر وأنفاس جونز محسوبة ومراقبته قضية أساسية، حتى لقاؤه مع وجه أميركا في موسكو وحلقة الوصل بينها وبين واشنطن، ألا وهو والتر دورانتي، المراسل الصحافي في موسكو (الممثل بيتر سارسغارد).
الغرب ليس واحدا عندما يرتبط الأمر بالمصالح، وهكذا فالمراسل الأميركي هو أول من سيحتوي جونز، ولكن في إطار عالم من المجون وتعاطي المخدرات ذلك الذي يغرق فيه دورانتي ذو النفوذ الواسع في موسكو، وخلال ذلك سوف يصدم جونز بمقتل صحافي صديق له كان يفترض أنه ينتظره ويسهّل له مهمته في الاتحاد السوفييتي.
عالم ستالين المغلق
هنا ثمة عوالم استثنائية غريبة، تمجيد عبقرية ستالين ونهضته المتنوعة الزراعية منها والصناعية والحربية، وبين ذلك هنالك شاب يبحث عن خيط رفيع يجمع الشكوك في التناقضات بالدعاية المزيّفة.
ويمكن فهم البناء الدرامي ابتداءً من هذه النقطة؛ أن جونز في مهمة وأنّه سوف يجازف بحياته وذلك إرضاءً لفضوله الصحافي ولكي يصل إلى حقيقة ما يجري في الاتحاد السوفييتي وحقيقة الدعاية الستالينية.
البرد والصقيع وعيون الجواسيس تترصّد كل شيء وكل كائن بشري، هو جاسوس وخائن للنظام حتى يثبت العكس، وهي المعادلة التي يعرفها جونز جيدا.
غاريث جونز
- غاريث جونز صحافي بريطاني ولد عام 1905 وتوفي عام 1935 في ظروف غامضة.
- قام بمهام صحافية جريئة بإجرائه وهو في سن صغيرة مقابلة مع هتلر وكشف نزعته التوسعية بشكل مبكّر.
- تسلل إلى معاقل الستالينية ليقوم بمهمة صحافية كشفت أرض الموت والإبادة الجماعية في أوكرانيا.
- كادت مهمته تتسبّب في أزمة بين الاتحاد السوفييتي وبريطانيا.
- اُغتيل في منغوليا عندما كان في مهمة صحافية.
التحدّي الإنساني يرتبط هنا بمجهول كامل ومساحة مغامرة لا حدود لها دون فرصة ولا متّسع للخوف أو التراجع، كل شيء سلبي ومخيف، وفي كلّ مرة على جونز أن يحتسي الفودكا ويعاشر النساء لكي يفصح عمّا في داخله. لكنه لا ولن يفعلها ولن ينغمس في ذلك النوع الشرّير من التنويم المغناطيسي.
وحدها إيدا (الممثلة فانيسا كيربي) محطته التي من خلالها يكتشف سر اغتيال صديقه الصحافي، إنها خطة الخروج خلسة من موسكو باتجاه أوكرانيا حيث حقل الذهب كما يسمّيه ستالين. أوكرانيا هي العالم السرّي الذي لا يُرى ولا يُسمح لأي كان الوصول إليه إلاّ بمعرفة السلطات، فما بالك بصحافي إنجليزي يرغب في القيام بمهمة مُبهمة.
هذا التحوّل الدرامي هو الذي سوف يغيّر كل شيء؛ ففي جو عاصف وثلوج تغطي الأرجاء يتسلّل جونز إلى قطار كي يسافر إلى أوكرانيا عبر عدة توقّفات في رحلة شاقة، ليجد نفسه وسط عربة مكتظة بالجياع بأتمّ معنى الكلمة، يتزاحمون لالتهام قشرة برتقال من شدة الجوع، وهنا تتّضح عظمة ستالين وصدقيّته!
لا مأوى لجونز ولا طعام، بإمكانه أن يلتهم لحاء الشجر، الموت جوعا يتفشّى في كل مكان والجثث يجري جمعها في عربات تجرها الخيول. ولكن أين الجنّة الموعودة التي صنعها ستالين؟
يقصد جونز منزلا غارقا في الثلج وتعصف به الريح على أساس أنه يعود إلى أقارب صديقته إيدا. لكنّه لا يجد إلاّ الجوع والموت.
الموت وعصف الريح الثلجية والمخبرون يترصّدون جونز ويحصون عليه أنفاسه، والسؤال يتعلّق أساسا بالزمن الذي من الممكن أن يقضيه صامدا وسط تلك الكارثة.
المكان الذي يطبق على الكائن من جميع الجهات، والموت قاب قوسين أو أدنى، خطوط سردية تتشابك وتلتقي عند صحافي تمّ فقدان أثره، ولا شك أنّه في مهمة سرّية، إنّه ملاحق بالهواجس وبالخوف على أمنه الشخصي، على إثبات الذات وكيفية الخروج من المأزق، ماذا سيكتب وماذا سيؤرّخ وهو يرى قطار الموت الزاحف يجهز على الضحايا والمزيد من الضحايا.
لا شيء في هذا المكان يمكن أن تؤسّس عليه قصة، فصرخة الموت تعلو على جميع الأصوات، كما أن الصحافي الذي يحوم في بيئة لا ينتمي إليها لم يعثر على كنز الذهب الستاليني المفترض، بل عثر على مذبحة يومية بسبب جوع لا يرحم وسلطات لا تكترث ولا تريد أن تسمع سوى المجد لستالين وكم أن التجربة الثورية عظيمة.
عندما يخرج جونز كاميرته بيدين متجمدتين ليلتقط صورة يتيمة، يحار في أي اتجاه يصوّر وماذا يصوّر والكارثة متجسّمة من جميع الاتجاهات؟ لكن الأفضل أن يتوجّه بالسؤال إلى أيّ أحد ومن بينهم طوابير المشرفين على الموت الذين ينتظرون وسط العصف أن يتسلموا قطعة من العجين متكلّسة اسمها خبز. تجيب المرأة وسط العاصفة، إنهم يقتلوننا، الملايين اختفوا.
مشهد فريد يسوده البياض وكتل بشرية بملابس رثّة، فيما تنتظر أجهزة الاستخبارات وتتحيّن لحظة احتكاك جونز بأيّ أحد أو سؤاله، حينها سيلبس القناع أو يتم وضع كيس على رأسه عنوة ويذهب إلى المجهول.
صحافي في قبضة ستالين
مَن يتدخّل لإنقاذ الشخصية مِن أزمتها ومَن يقوم بتخليص الصحافي من مخالب الستالينية؟ أيّ سؤال محيّر هذا، ولربما هي نهاية متوقّعة تنتظر من يخاطر فيدخل وكر الأفاعي، حيث كان ستالين يُعدم بشكل لا ينقطع والكل تنتظره المقصلة وحبال المشانق.
إلاّ أن الصحافي الويلزي وصديق رئيس الوزراء البريطاني يجد ملاذا ويدّعي الصحافي الأميركي دورانتي أنه هو من أنقذه. لكن كل ذلك ليس كافيا، وما عاشه جونز وما سوف يقوله ليسا كافييْن ولا مقنعيْن، فبريطانيا لا تريد قطيعة مع ستالين في تلك المرحلة وتتحسّب لغدر هتلري قريب، ولهذا لن يصدّق جونز أحدا وهو يروي قصة الإبادة الجماعية التي كان ينفذها ستالين ضد شعبه وكذبة الخطط الخمسية والنهوض الصناعي والعمراني.. وما إلى ذلك.
جونز في مشهد مواجهة عاصف يجمعه برئيس الوزراء البريطاني، يتلقّى توبيخا كافيا ليشعر بعدها بالذلّ والعجز وأن القصة الصحافية المؤكّدة بمصادرها وشهودها ليست كافية ليتمّ تبنيها ونشرها للناس.
جونز يجول في شوارع لندن باكيا محبطا وقصته الصحافية موضع سخرية، مكان آخر لا ينتمي إليه جونز لأنه مكان ضد الحقيقة ويكره الحقيقة ويتقاطع معها.
لا أحد يصدّق الحقيقة
اغتراب الشخصية ولا انتماؤها إلى ما حولها من قوى المصالح والانتهازية السياسية يشكّلان علامة فارقة في هذه الدراما المؤثّرة والمصنوعة بعناية، والتي هي أقرب إلى الوثيقة الصادمة بجميع مراحلها.
ربما تكون مهمة البحث عن الحقيقة وخوض غمار المغامرة هي الأرضية الدرامية التي بنيت عليها أحداث الفيلم. لكن في المقابل هناك الأزمة الطاحنة التي تضرب كل شيء والتي يتحوّل فيها جونز إلى مجرد صوت خافت لا يسمعه أحد مع كل ما يمتلكه من مؤهلات البلاغة والشجاعة والقدرات الصحافية.
جماليات السيرة الذاتية التي تقترب من التوثيق سوف تتنوّع من خلال البيئات المتنوعة والأحداث، جماليات مشبعة بالحياة ولو بمعناها السلبي والمرتبط بالأزمة. ولكنها على أية حال جماليات الذات الحقيقية العابرة للخوف والمصالح باتجاه الإنسان المجرّد والحقيقة الكاملة.
هي رحلة جونز مقتولا في منغوليا، وهو لا يزال في الثلاثينات من العمر، والشبهات تحوم حول الأجهزة السرّية السوفييتية التي ربما تكون قد لاحقته وأنهت حياته لتبقى قصّته.