تكريمات يوم الجيش تكرس عودة "الصقور" إلى مفاصل الدولة في الجزائر

نفوذ متعاظم للجيش

الجزائر

استغلت السلطة الجزائرية فرصة يوم الجيش، لتكريم عدد من الضباط السامين الذين شغلوا مناصب قيادية في المؤسسة العسكرية، وهي سابقة أولى من نوعها، انطوت على رسائل سياسية تتمحور حول تكريس تعاظم مكانة المؤسسة في جسد الدولة، وعدم التفريط في الكوادر التي ارتبطت بمراحل الأزمة الجزائرية منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، لقطع الطريق على مساعي توريط بعضها في متابعات قضائية دولية.

وكرمت القيادة العسكرية في الجيش الجزائري، عددا من ضباطها المتقاعدين في بادرة هي الأولى من نوعها في تاريخ المؤسسة، كاعتراف منها بدور وجهود هؤلاء في بنائها والحفاظ عليها، لكن الرسالة كانت أبعد من ذلك وهي إذابة الجليد بين مختلف الرموز العسكرية التي ارتبطت بتفاصيل الأزمة في البلاد، وقطع الطريق على مساعي توريطها في متابعات قضائية تجري في الخارج.

وتعلق الأمر بعدد من الجنرالات كمديري جهاز الاستخبارات السابقين محمد مدين (توفيق)، ومحمد بتشين، ووزير الدفاع المتقاعد خالد نزار، وحسين بن حديد، فضلا عن الرئيس والجنرال السابق اليامين زروال.

وأشرف الرئيس عبدالمجيد تبون، على حفل التكريم في نادي الجيش بضاحية بني مسوس بالعاصمة، رفقة القيادة العسكرية الحالية، وذلك بمناسبة إحياء اليوم الوطني لتلاحم الجيش والشعب الذي تم إقراره في السنوات الأخيرة، كدلالة على العلاقة المتناغمة بين الطرفين، وكتم الأصوات التي طالبت بتحييد الجيش عن المشهد السياسي خلال احتجاجات الحراك الشعبي.

وذكرت تقارير محلية، أن البعض من الجنرالات المعنيين بالتكريم تغيبوا عن الحفل لداوع صحية، لكن ذلك لا يحجب فرضية الرفض قياسا بالخلافات التي تجمع البعض منهم، كما هو الشأن بالنسبة إلى الجنرال حسين بن حديد، الذي كان من بين ناقدي السلطة، ولم يغادر السجن إلا بقدوم النخبة القيادية الحالية في المؤسسة.

ويرتبط الضباط المكرمون ببدايات الأزمة السياسية والأمنية في البلاد منذ نهايات ثمانينات القرن الماضي، حيث كان الجنرال محمد بتشين، قائدا لجهاز الاستخبارات، وتنسب إليه أعمال القمع والتعذيب التي تعرض لها الشباب المنتفض في أحداث الخامس من أكتوبر 1988.

كما يرتبط مدير الاستخبارات الآخر (توفيق) ووزير الدفاع الأسبق خالد نزار، بالعشرية الدموية التي أودت بنحو 250 ألف جزائري بحسب تقديرات رسمية، وأسفرت عن حوالي 20 ألف مفقود إلى حد الآن، وتحوم حولهما شكوك في ارتكاب مجازر جماعية في حق المدنيين خلال العشرية المذكورة.

وإذ يتقاسم هؤلاء صفة "الصقور"، وهم الضباط المتشددون في التعاطي مع جماعات الجهاد الإسلامي، حيث ظلوا يتبنون المقاربة الأمنية في محاربة الإرهاب، إلى غاية وصول الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة إلى الحكم، الذي أطلق مشروعا للمصالحة الوطنية على طبعتين في 1999 و2005، فإن الخلافات بينهم تبقى واضحة في إدارة الشأن السياسي، وبسبب الضغوط التي مارسوها على الرئيس السابق اليامين زروال، اضطر في 1998 إلى الاستقالة قبل نهاية عهدته الرئاسية وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة آنذاك.

وبهذا التكريم تكون القيادة السياسية في البلاد، قد دفنت نهائيا معالم مرحلة القائد السابق للجيش الفريق الراحل أحمد قايد صالح، الذي شكل في السنوات الأخيرة رمزية سياسية، فقد استغل فرصة ملف شحنة الكوكايين المحجوزة في العام 2018، وثورة الحراك الشعبي، لإجراء تصفيات عميقة داخل المؤسسة العسكرية ورسم معالم واجهتها السياسية، وأطاح بعشرات الجنرالات والضباط السامين بتهمة الفساد، كما سجن البعض منهم.

وباستثناء مدير الاستخبارات في ثمانينات القرن الماضي، الجنرال محمد بتشين، فإن البقية كلهم كانوا على تنافر مع أحمد قايد صالح، خلال حقبة الحراك الشعبي، فقد تم سجن الجنرال توفيق، وقبله حسين بن حديد، أما خالد نزار، فقد فر حينها إلى إسبانيا.

ولوحق هؤلاء بتهم التآمر على الدولة وعلى مؤسسة الجيش وقيادتها، إلى جانب مدنيين آخرين (سعيد بوتفليقة شقيق الرئيس بوتفليقة ولويزة حنون رئيسة حزب العمال)، وحكم عليهما بـ15 و20 عاما حضوريا وغيابيا، إلا أنه بمجرد وفاة قايد صالح وظهور توازنات جديدة داخل المؤسسة، حصل هؤلاء على البراءة وأفرغت الأحكام الغيابية في حقهم.

ويرى متابعون للشأن الجزائري، أن الجنرالين خالد نزار ومحمد مدين (توفيق)، رغم تقاعدهما إلا أنهما يمثلان العلبة السوداء التي تدير شؤون البلاد حاليا، وأن الخيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المنتهجة منذ انتخاب عبدالمجيد تبون رئيسا للبلاد هم أصحابها الحقيقيون، خاصة فيما يتعلق بالمقاربة الأمنية في التعاطي مع الحراك الشعبي والمعارضة السياسية بشكل عام.

كما يبدو أن القيادة السياسية في البلاد ومن خلفها قيادة الجيش، تريد التمسك برموزها السابقين، وعدم تركها وحيدة في مواجهة المتاعب القضائية التي تلاحقها في الخارج، لأن سقوط أي منها سيجر حتما رموزا أخرى إلى المعترك.

ووجه القضاء السويسري تهمة التواطؤ في ارتكاب مجازر جماعية وجرائم ضد الإنسانية خلال العشرية الدموية في الجزائر، إلى وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزار.

ولا يستبعد من المبادرة أن تكون محاولة لبسط الهدوء والاستقرار بين الأجنحة النافذة في المؤسسة العسكرية، بعد سنوات من عدم الاستقرار والحركة المفتوحة على الإقالات والمتابعات القضائية وإرساء التوازنات، الأمر الذي يثير اهتمام الرأي العام الخارجي، خاصة مع تواجد عشرات الجنرالات والضباط السامين في السجون، والتغييرات المستمرة على رأس الدوائر المهمة، وهو أمر لا يلغي فرضية الصراعات وتصفية الحسابات مهما كانت المبررات المقدمة.

ويوحي تكريم الضباط المذكورين، بتكريس الحديث الدائر عن عودة “الصقور” إلى مفاصل المؤسسة العسكرية والدولة بشكل عام، بعدما تدحرج نفوذ هؤلاء خلال العقدين الأخيرين، سواء خلال حقبة الرئيس الراحل بوتفليقة، أو قيادة الفريق الراحل أيضا أحمد قايد صالح.