شاهد على الحرب وضحيّتها

شهادة من قلب يمن مثخن بالجراح في'سيلفي الحرب'

عدن

تضمّن "سيلفي الحرب" للصحفي اليمني محمد القاضي، أحداثاً وقصصًا ملحمية ومواقف ومشاهد حيّة شهدها وعاشها المؤلف في يومياته أثناء تغطيته الميدانية للحرب في اليمن بين عامي 2014 و2017. وقد كان المؤلّف دقيقاً في اختياره لعنوان الكتاب، كون ما تضمّنه أحداثًا كان لصيقاً بمعظمها، وقد أوضح في مقدّمته أن صور السيلفي كانت مطلب المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها دليلاً على صحة الأخبار التي ينقلها المراسل عن جبهات تختلف بشأنها الروايات.

ولفت في مقدّمة الكتاب الصادر مؤخراً عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، إلى أن ما دوّنه في الكتاب هو "بعضاً من المشاهد اليومية للحرب" من الزاوية التي كان يقف عليها.. لافتاً إلى الصعوبات التي واجهها خلال كتابته عن وطنه المثخن بالجراح وهو يتّجه نحو مزيد من الخراب والدمار وعن الألآم والأحزان وصراخ الأطفال ونحيب الثكالى.

ولسنا هنا بصدد عرض كتاب تقليدي مؤلّف من أبواب وفصول ولغة أكاديمية، وإنما مجموعة من القصص أشبه بمسلسل ملحمي مؤلّف من 75 حلقة، يقدّم صورة مكثّفة ومختزلة لكل جوانب الحرب التي أعقبت انقلاب مليشيات الحوثي على الحكومة الشرعية وما أفرزته من تداعيات على معيشة وحياة اليمنيين بمختلف مستوياتهم وفئاتهم العمرية ومكوناتهم السياسية والفكرية والدينية.

وفي إطار الصورة الكبيرة للحرب، استطاع الكاتب أن ينقل لنا سلسلة معارك جزئية داخلها بطريقة سلسلة ومتماسكة، ومنها معاركه للقيام بعمله والبقاء على قيد الحياة، ومعاركه لإنقاذ أسرته من مرمى النيران، ومعارك أخرى لصحفيين وسكّان ومواطنين يجاهدون للنجاة بحياتهم وحياة أحبابهم.

وكان القاضي قد اعتبر أن ما كان يقوم به لمواكبة تفاصيل الحرب وتطوراتها المتسارعة بمثابة "معركة" غالباً ما كان يحسمها بتزويد المتابعين بالأخبار العاجلة والصور الحصرية والخاصة، وخلال تلك السنوات، يظهر أنه خاض معركتين رئيسيتين انتهت كل جولة منهما بإزاحته قسرياً إلى خارج البلاد هرباً من الموت أو الاختطاف، وتخللهما معارك فرعية كانت تضطره للتنقل بين المدن اليمنية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وقد نجا من موت محقق عدّة مرّات أثناء عمله.

ولم يقتصر كتاب القاضي على توثيق جوانب مهمة من الأحداث الدراماتيكية لسقوط المدن اليمنية واحدة تلو أخرى في قبضة المليشيات المسلّحة لدرجة أن الصحفي لم يعد يجد له موطئ قدم على امتداد جغرافيا وطنه يمارس من خلالها عمله، بل سلّط الضوء على مواقف الأمم المتحدة والدول الفاعلة والمعنية بملف اليمن، وقدّم صورة واسعة وواضحة لخلافات القوى السياسية اليمنية.

تبدأ أحداث الصراع في الكتاب من "تلاشي الحلم" في 21 سبتمبر 2014، حينما اجتاحت مليشيا الحوثي العاصمة اليمنية صنعاء، بقوّة السلاح، وانتشر مسلحوها في أحياء المدينة وشوارعها، وساد الخوف والرعب في أوساط السكّان وهم يشاهدون نهب المعسكرات ومؤسسات الدولة ومداهمة المنازل ومساكن الطلبة، ويختطفون من صادفهم من المعارضين.

وفي خضم هذه الأحداث وجد الصحفيون أنفسهم هدفًا مباشرًا للمسلّحين المتوحشّين، وقد نجا القاضي وأحد مصوّريه من الاختطاف أثناء تغطيتهما لتظاهرة وسط صنعاء، كانت بمثابة محاولة شعبية أخيرة لمناشدة العالم ورعاة التسوية السياسية التي أعقبت ثورة الشباب السلمية 2011، لمنع انهيار الدولة اليمنية وسقوط البلاد في الفوضى الدامية.

ووثّق الكتاب لحظات سقوط "آخر القلاع" في العاصمة صنعاء حينما هاجمت المليشيا الحوثية في 19 يناير/كانون الثاني 2015 دار الرئاسة ومعسكر النهدين (جنوب)، بمختلف أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وحينها كان الصحفي القاضي بين مهمّتين: إنقاذ أسرته التي تسكن جوار قصر بات في مرمى النيران، ومهمّة تغطية الأحداث ونقلها للعالم، وكل واحدة منهما أخطر من الأخرى.

ويسرد القاضي مشاهد الرعب التي التقطها وهو ينقذ أسرته لمجاميع متفرّقة من مختلف الأعمار وهم يهيمون على وجوههم في الشوارع هرباً من الموت وفي حال من الفزع والخوف، وكان ذلك المشهد الأخير قبل أن تنتقل بعدها دائرة الحرب الدامية إلى مناطق أخرى من خارطة اليمن.

استطاع القاضي أن يضع القارئ العادي- سواء كان يمنياً أم أجنبياً- أمام الصورة الكاملة لحقيقة ما جرى ويجري في اليمن، حتى مغادرته للبلاد مكرهاً في أغسطس 2016، في سلسلة طويلة من الأحداث والمواقف والمشاهد المحزنة والمفرحة والمضحكة والمخضبة بالآلام والآمال.

وتناول القاضي فرار رئيس البلاد من قبضة الحوثيين في صنعاء إلى منزله في منطقة العريش بمدينة عدن في 21 فبراير 2015، وفراره منها مرّة أخرى أمام زحف المليشيات وتحت ضرباتها الجوية إلى سلطنة عمان ومنها إلى السعودية في 26 مارس، مقدّماً خلاصة أوّل 100 يوم من انطلاق "عاصفة الحزم" بقيادة السعودية عشيّة ذلك اليوم.

وقدّم القاضي صوراً حيّة وفريدة للأرياف اليمنية وهي ترزح تحت ضغط النزوح إليها من المدن التي اجتاحتها المليشيات، والإرهاب والضغط النفسي الذي يعيشه الأهالي وهم يترقّبون مداهمة الحوثيين لمنازلهم بحثاً عن خصومهم والفارين من قبضتهم. وصوراً أخرى لفرحة أبناء عدن بعد تحرير مدينتهم وآمالهم العريضة بعودة الكهرباء والمياه قبل أن تتحوّل إلى خيبة أمل ونكبة ضاعفتها الفوضى الأمنية والسلاح المنفلت، وزادت حسرتهم مع زيارة هادي القصيرة في سبتمبر 2015، ومغادرته دون أن يصنع لهم شيئاً.

كما قدّم عرضاً موجزاً وشيّقاً لخارطة العمليات العسكرية التي أطلقها الجيش والمقاومة من أطراف مدينة مارب، غربًا وصولاً إلى مدينة صرواح وجنوبًا وصولاً إلى تحرير مدينة حريب وثم بيحان في محافظة شبوة، ومن الجهة الشمالية الغربية وصولاً إلى مديرية نهم شرقي صنعاء، وشمالاً وصولاً إلى مدينة الحزم عاصمة محافظة الجوف، وإلى الغيل ثاني أهم مديرية فيها. ناقلاً صعوبة التضاريس وصلابة الجنود وجسارة القادة وتضحيات القبائل والتحام المجتمع بالجيش، ونشوة الجميع بالانتصارات وأحزانهم في الانكسارات وخسارة الأبطال والقادة الكبار.

وإنسانياً كان القاضي أوّل الشهود على حصار الحوثيين لمدينة تعز، وعلى معاناة أهالي عدن، واستطاع أن يلتقط مشهداً نادراً لأبشع مجزرة ارتكبها الحوثيون في مرفأ التواهي، ويعرض صوراً حيّة لمعاناة المهجّرين والنازحين في مارب، ومعاناة المسافرين عبر طريق العبر الدولي، وعن لعبة الموت التي أفقدت الطفلة "مينا" قدمها اليمنى، وقتلت شقيقها الأصغر وأصابت والدها ووالدتها وشقيقتها وشقيقها. وعن وفاة الطفلة سلوى إثر القصف الجوي لطيران التحالف استهدفت موقعاً في جبل نقم شرق صنعاء. وكواليس الغارة الكارثية على صالة العزاء.

وبشيء من التفصيل، قدّم القاضي صورة حيّة وحقيقية للمخاطر الجسيمة التي يعيشها الصحفيون في اليمن، سواء من خلال روايته للمواقف المميتة التي تعرّض لها والمعاناة التي قاساها وأسرته، أو معاناة الصحفيين الآخرين الذين تعتبرهم المليشيات أعداءً ولا تتردد في الفتك بهم. وإضافة إلى ذلك، قدّم صوراً أخرى تجسّد معاناة اليمنيين اليومية بدءً من النقاط الأمنية داخل المدن وحتى لوبي الفساد في منفذ الوديعة، وتعسّفات الموظفين في المنافذ البرّية السعودية، وعن النشاط الزراعي والصناعات المحلية والنشاط التجاري في الأسواق اليمنية.

واختتم القاضي كتابه بانعكاس الأزمة الخليجية التي اندلعت بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى على مراسلي قناة الجزيرة في اليمن، وكيف حاول ضباط سعوديون وإماراتيون في اليمن اعتقالهم، ليضطر القاضي وفريقه مغادرة البلاد نهائياً بعد أن باتوا هدفاً لمليشيات الحوثي في صنعاء ومحيطها وللتحالف بقيادة السعودية والإمارات في بقيّة البلاد.

غادر البطل مسرح المعركة تاركاً خلفه قوافل الحزن وفصولاً متوالية من الأحداث الدامية، وهو ما يشير إلى أننا في انتظار جزء أو أجزاء جديدة من سيلفيهات الصحفي القاضي عن يومياته وشهاداته على الأحداث التي ما تزال مجرياتها مستمرّة حتى الآن.

وبعد هذا الركض الطويل لتغطية الأحداث الساخنة متنقلاً بين المدن اليمنية، يقول القاضي، إنه

اكتشف أن الخبر لم يكن وحده "الهدف والغاية" بقدر ما كان يبحث ويركض "وراء الخبر والأمل معاً؛ الأمل في لقاء الأحباب، والعودة إلى الديار، وتحقيق الحلم؛ حلم الدولة العادلة والضامنة للحياة الآمنة والعيش الكريم".

ما يميز الكتاب أن مؤلّفه أحد أبناء البلد، وهو الشاهد على الحرب وضحيّتها، وهذا نادراً ما يكون في كتب المراسلين الميدانيين الذين دوّنوا شهاداتهم عن حروب متفرّقة حول العالم شاركوا في تغطيتها كموفدين. وما يزيد من قيمة مضمونه استناده على وثائق مصوّرة ومواقف عايشها ووقف عليها بنفسه وأحاط بكل تفاصيلها انطلاقاً من تواجده في موقف الحدث وخبرته الطويلة وعلاقاته الواسعة بالمسؤولين والفاعلين، ومتابعته اللصيقة للأحداث من بدايتها.

وما يؤخذ على الكاتب أنه في حين تناول الدول والأطراف الفاعلة في الحرب اليمنية، وفي مقدمتها دول التحالف بقيادة السعودية الداعمة للحكومة الشرعية، إلا أنه أغفل الإشارة إلى تدخلات إيران في اليمن من خلال دعمها للمليشيا الحوثية التي انقلبت على الدولة وفجّرت الحرب المدمّرة في البلاد.

من الكتاب:

مرفأ الموت

بعد دحر الحوثيين وقوات صالح من مدينة عدن عملنا في تغطيتنا على استذكار أهم الأحداث والمشاهد الحزينة التي عاشها سكان مدينة كانت تُسمى بثغر اليمن الباسم؛ لقد أحالتها الحرب إلى ركام وجلعت منها مدينة أشباح، وكنا ننتقل صبيحة كل يوم من شارع إلى آخر، ومن حي إلى حي ومن مديرية إلى أخرى، وعشنا قصصاً مأساوية، وجروحاً مازالت مفتوحة لم تضمد بعد، وإن كان طرد الحوثيين من المدينة قد خفف من آلامها..

وكلما نزلنا مديرية من مديريات عدن يتركز حديث الأهالي عن قصص وحكايات مأساوية حدثت لهم أيام الحرب، ويشيرون بفخرٍ إلى البطولات التي سطرها شبابهم العزل في مواجهة غير متكافئة مع ميليشيات الحوثي وقوات صالح، ويتذكرون بحسرة وألم كل من فارق الحياة بقنصٍ أو قصفٍ أو إصابةٍ حالت الإمكانات المتواضعة بينهم وبين إسعافه في الوقت المناسب.

أمٌ تحكي بحسرة كيف خسرت ولديها في هذه الحرب، وفتاة تتحدث بألم عن الطريقة التي قتل بها والدها، وأخرى تتكلم بأسى عن زوجها الذي قضى نحبه في هذه الحرب الظالمة.. ولكل واحد من السكان حكايته الخاصة حتى أولئك الذين لاذوا بالصمت كانت نظراتهم والحسرات المتراكمة على ملامحهم تحكي حجم مآسيهم..

وفِي سعينا الحثيث لتسليط الضوء على أبرز الأحداث التي شهدتها المدينة ولم تتمكن وسائل الإعلام يومها من تغطيتها إلا من زوايا ناقصة نقلت من خلالها صورة مجتزأة عن المشهد الكلي؛ قصدنا مديرية (التواهي) وتحديداً المرفأ القريب من ميناء عدن، فقد تناقلت وسائل الإعلام حينها أخبارا عن مجزرة ارتكبت بحق أسرٍ حاولت الفرار من جحيم الحرب عبر هذا المرفأ.

هالنا - كفريق عمل - ما شاهدنا من بين فتحات السياج الحديدي عند وصولنا المرفأ، فاتجهنا للتفاوض مع حراسة الموقع لفتح الباب والسماح لنا بالتصوير، ولحسن الحظ كانت الاستجابة سريعة. قال لنا قائد الموقع: أنتم أول من سيدخل هذا المرفأ منذ ذلك اليوم المشئوم..

وبالفعل فما إن فتحت البوابة الرئيسية حتى خيم علينا الذهول، وفوجئنا بمشاهد مرعبة لأكوام من ملابسَ وأحذيةٍ ورضاعاتِ أطفالٍ متناثرة هنا وهناك، تتحدث عن بشاعة تلك الجريمة، وهذه الأدوات الضرورية وخفيفة الحمل تقدم دليلا واضحا على هول الفاجعة التي حلت بأصحابها.

يا الله! كم هو مؤلم أن تجد أحذية أطفال صغار ورضاعتهم وملابسهم ولا تعلم ما المصير الذي حل بهم يومها، وتذهب بذهنك بعيداً لتتخيل صراخهم وخوفهم وتشبثهم بأهلهم وذويهم..

أتذكر حينها أننا شاهدنا أثناء التغطية امرأة تدخل المرفأ بخطى مرتبكة وذهبت تفتش في أكوام الملابس، وكأنها تبحث عن شخصٍ ما من خلال ملابسه؛ علها تتعرف على بقاياه، فاقتربنا منها فتحدثت بحزن شديد عن هول الفاجعة التي حلت بهم ذلك اليوم، وذكرت أن لها أقرباء كانوا ضمن ضحايا القصف..

لا توجد أرقام محددة لعدد الضحايا سوى الرواية التي تتحدث عن نحو خمسين سقطوا بين قتيل وجريح..