مضايقة مجتمع الميم..

المثلية أخطر من وصمة في كردستان العراق

"أرشيفية"

بغداد

يجلس أشخاص معظمهم في العشرينات من العمر على شرفة في ظل بستان جميل من الأشجار بملابس سوداء، مع أقراط في أجزاء من وجوههم، ووشوم، وبعض الصبغات الأرجوانية في شعرهم.

قد يبدو مقهى عصريا في برلين أو باريس أو أي عاصمة أوروبية أخرى، لكن صوت أذان المغرب يذكرنا بأننا في السليمانية، وهي المدينة الثانية بعد أربيل في منطقة الحكم الذاتي الكردية في العراق.

لا يمكننا الكشف عن الإحداثيات الدقيقة للمقهى، ولا اسم الشخص الذي أحضرنا إلى هنا. كانت ترتدي سروالا قصيرا أبيض وقميصا قصيرا وتضع سوارا بألوان قوس قزح على معصمها الأيسر. طلبت أن نسميها كوين، وهي امرأة عابرة جنسيا.

وتعترف لنا هذه الكردية البالغة من العمر 33 عاما بأنها كانت “رجلا مملا” خلال السنوات الخمس والعشرين الأولى من حياتها، وهي الأصغر بين خمسة من إخوتها من عائلة كردية في ديالى في شرق البلاد.

وقالت وهي ترتدي فستانا “تعلمت كبح احتياجاتي. ومع ذلك، فقد ارتديت ملابس والدتي لأول مرة ووضعت المكياج عندما كنت في الخامسة من عمري. أشعر بأنني الشخص الذي أنا عليه والشخص الذي كنت عليه دائما”.

لكن لتلك الحرية التي تتمتع بها في العزلة ثمنها. كيف تنسى ضرب شقيقها الأكبر لها عندما اكتشف ميولاتها وهي في سن السادسة، والإذلال والتنمر الذي تعرضت له في المدرسة. كما كادت أن تموت عندما كانت في الرابعة والعشرين من عمرها. حيث اتصل بها شخص ما عبر الإنترنت وطلب مقابلتها في ضواحي المدينة. لكنهم كانوا خمسة أفراد ينتظرون ضربها. كانت كوين منهكة من الضرب ومغطاة بالوحل والدم، وحشدت قوتها للسير إلى مكتب قاض محلي. وأخبرها “لديك خياران: إما تقديم شكوى وتلطيخ اسم عائلتك إلى الأبد، أوالتوقف عن فعل ما تفعلينه”. فلم تستطع أن تقول ما مرت به أو لماذا. ولا يعلم أحد في ديالي أن كوين امرأة حتى اليوم.

وعملت رغم كل الصعاب لعدة سنوات مع منظمة غير حكومية أجنبية تركز على حماية الفئات الضعيفة. وتعمل، من بين المشاريع الأخرى، على وضع قائمة بالكلمات الكردية للحديث عن مجتمع الميم بعبارات ليست مسيئة.

على سبيل المثال، تبقى عبارة هوراغازخواز (مصطلح يعني حرفيا “شخص ينجذب إلى أفراد من جنسه”) حتى الآن النموذج الشامل الوحيد للإشارة إلى “مثليي الجنس”. وتشمل المصطلحات الشائعة إشارات إلى “الاعتداء الجنسي على الأطفال”، أو “الاغتصاب”.

لم تقرر كوين بعد إجراء عملية جراحية أو تناول هرمونات، ولم يكن لديها الكثير من الوقت أيضا. وقالت إن العمل في المنظمة غير الحكومية والبحث عن مكان في المجتمع لأعضاء مجتمع الميم يستهلكان معظم وقتها. وتابعت “إذا كانت لدي مهمة في الحياة، فهذه هي”.

وضُربت امرأة متحولة جنسيا وحُرقت حية قبل أن تُلقى في سلة مهملات. وعذّب مهاجمون رجلا مثلي الجنس ثم قتلوه بينما أجبروا شريكه على المشاهدة. وطُعنت امرأة مثلية حتى الموت بينما طُلب منها وقف “سلوكها غير الأخلاقي”.

سلوك غير أخلاقي

ليست هذه سوى ثلاثة حوادث من بين حالات عديدة وردت في تقرير صدر في مارس 2022 عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” حول مجتمع الميم في العراق. وتحدّث التقرير عن خطف الجماعات المسلحة للأشخاص المثليين واغتصابهم وتعذيبهم وقتلهم. وذكر أن قوات أمن الدولة كانت تقف سابقا وراء هذه الجرائم في الكثير من الأحيان.

وكتبت الباحثة في “هيومن رايتس ووتش” رشا يونس في التقرير “يعيش أفراد هذا المجتمع تحت التهديد المستمر بالتعرض للاعتقال والقتل على أيدي الشرطة العراقية، وفي ظل إفلات كامل من العقاب”.

لا تزال صور المثليين الذين دفعهم تنظيم “الدولة الإسلامية” من فوق أسطح المنازل حاضرة في أذهان الجميع، مع الصور التي نشرتها دوسكي آزاد، وهي امرأة كردية متحولة، على إنستغرام قبل العثور على جثتها في حفرة في فبراير الماضي. وقد قُتلت على يد شقيقها.

وقالت فارين، وهي ناشطة مثلية الج+نس تبلغ من العمر 23 عاما، لوكالة إنتر بريس سيرفس من الشرفة في السليمانية “أعرف الكثير من الأشخاص الذين لا يخرجون إلى الشوارع أبدا”. واكتشفت بفضل الإنترنت أشخاصا مثلها لا يشعرون بالارتباط بأي تعبير جنساني واحد.

وتعمل الناشطة في حوض سباحة، لكن دراساتها في الكيمياء أتاحت لها فرصة عمل في قطر لا تريد أن تفوتها.وقالت ضاحكة “حضرت لمقابلة العمل مرتدية زي امرأة محتشم وبأكمام طويلة حتى لا يظهر الوشم”. وتشير فارين إلى حوالي 30 عضوا داخل مجتمع المثليين في السليمانية يجتمعون في مقاهي مثل الذي زرناه. وتعمل الشبكات الاجتماعية أيضا على تسهيل التعرف على بعضهم البعض.

هل ينظمون الاحتجاجات؟ لا، فهذا خطير جدا. في الواقع، تعرضت اللوحة الجدارية التي اختارتها لالتقاط صورتها معنا للتخريب (وستدمّر بالكامل بعد بضعة أيام). وعلى الرغم من التهديدات، أصبحت هذه المدينة الكردية أكثر الأماكن أمانا في البلاد لأفراد مجتمع الميم. ويسعى العديد من المثليين من جنوب البلاد إلى اللجوء إلى مدن مثل أربيل، العاصمة الكردية في العراق.


لا يمكن مقارنة الوضع بأي حال من الأحوال، لكن فارين تؤكد أن أربيل لا تزال مدينة محافظة للغاية، “واحدة من تلك التي لا يزال الوقت فيها ثابتا خلال شهر رمضان ولا يمكنك أن تتخلى عن حذرك أبدا”.

الميول الانتحارية
في أبريل 2021، قُبض على العديد من الشباب في السليمانية “لكونهم مثليين ولسلوكهم غير الأخلاقي”. هكذا وصفهم قائد العملية للصحافة. ومع ذلك، يبدو أن المضايقة تمتد إلى أي شخص قد يجرؤ على إظهار أي نوع من الدعم.

هذه هي حالة منظمة “راسان” غير الحكومية المحلية التي تُجبر باستمرار على المثول أمام العدالة بسبب “الترويج لمجتمع الميم”. ولا تزال تنتظر المحاكمة بعد الدعوى القضائية الأخيرة التي رفعها عضو في البرلمان الكردي.

وأكدت مديرة منظمة “راسان”، تانيا كمال درويش، من مكتبها في السليمانية لوكالة إنتر بريس أن مهمتها ليست الترويج لمجتمع الميم ولكن “رفع مستوى الوعي في المجتمع حول هذا الموضوع”. لكنها أضافت أن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن اعتقالات أعضاء الجماعة لا تزال شائعة في المنطقة الكردية بالعراق.

وتابعت “بدلا من القبول بوجود هؤلاء الأشخاص، فإنهم يصرون على تجريمهم. وهم متهمون بالدعارة وتهريب المخدرات أو أي شيء آخر لأخذهم من الشوارع. تتحد كل العشائر والأحزاب والقادة، دينيا وسياسيا، في عداوتها للجماعة المساندة لمجتمع الميم. وغالبا ما تتمسك بالقضايا الدينية لتبرير العنف، أو تسيّس الأمر”.

ويتحول عجز هؤلاء الأفراد عن الدفاع عن أنفسهم وعدم ملاقاتهم القبول إلى حالات من الاكتئاب والقلق والإجهاد اللاحق للصدمة وحتى الميول الانتحارية.

هذا هو التشخيص الذي نقلته أخصائية نفسية متخصصة في الصدمات إلى خدمة إنتر بريس وفضلت عدم إعطاء اسمها الحقيقي للمقابلة. وتعمل مع ضحايا العنف الجنسي والتعذيب في الشرق الأوسط منذ أكثر من عقد وتريد تجنب الكشف بأي ثمن. وتسلط بهذا الضوء أيضا على خطر “الاستبعاد من سوق العمل أو الأسرة في منطقة تكون فيها العائلة أساسية”.

وأتيحت الفرصة للمتخصصة لمقابلة فارين وكوين شخصيا بعد عدة رحلات إلى المنطقة. وقالت “هما توفران الأمل للمجتمع ومساحة لطرح الأسئلة. وتظهران بالفعل شجاعة كبيرة من خلال التعبير عن هويتيهما”.

وفي الرابع من سبتمبر الماضي، قدم أعضاء في حكومة إقليم كردستان العراق إلى البرلمان مشروع قانون من شأنه إذا اعتُمد أن يعاقب أي فرد أو مجموعة تدافع عن حقوق المثليين، ومتغيّري النوع الاجتماعي (مجتمع الميم).

وتفيد التقارير بأن مشروع القانون يكتسب زخما بين أعضاء البرلمان.

وطبقا لـ”قانون حظر الدعوة إلى المثلية الجنسية”، سيواجه أي شخص يدافع عن حقوق مجتمع الميم أو “يدعو إلى المثلية الجنسية” عقوبة بالسجن تصل إلى عام، وغرامة قد تبلغ خمسة ملايين دينار (3430 دولارا أميركيا). كما سيعلّق مشروع القانون، لمدة تصل إلى شهر، تراخيص شركات الإعلام ومنظمات المجتمع المدني التي “تدعو إلى المثلية الجنسية”.

مشروع تجريم المثلية

ولفتت رشا يونس إلى أن القانون حال إقراره، سيعرّض حرية التعبير في إقليم كردستان العراق للخطر وسيقضي على النقاش العام حول الجندر والجنسانية.

ويأتي مشروع القانون المقترح وسط حملة قمع مكثفة على حرية التجمع والتعبير في إقليم كردستان العراق، حيث اعتقلت قوات الأمن خلال الشهر الماضي عشرات الصحافيين والنشطاء والسياسيين قبل احتجاجات مخطط لها بسبب تفشي الفساد والفقر والبطالة.

وسيجعل القانون الجديد الوضع السيء لمجتمع الميم في العراق أكثر سوءا، حيث يمكن اعتقالهم بالفعل بموجب مجموعة من أحكام “قانون العقوبات” الفضفاضة الهادفة إلى الضبط السلوكي على الأخلاق والحد من حرية التعبير.

هذا بالإضافة إلى دفع المجتمع إلى الانتقام من مجتمع الميم بـمسوغات جديدة رغم وجود حالات قتل فظيعة، ففي عام 2018 قتل شاب من مواليد 2003، يدعى حمودي المطيري، فقط لشكوك حول ميوله الجنسية، إذ تم شق بطنه واستخراج أحشائه، وتصوير مقطع فيديو له وهو يموت تدريجيا، فيما يسخر قتلته – الذين لم يلق القبض عليهم حتى اللحظة – منه أثناء تصويره بقولهم له “أين حبيبك ونحن نخرج أحشاءك؟”، فيما كان هو يستنجد بهم، ويطالب برؤية أمه قبل وفاته.

كما تعرض طفل، لم يتعدّ عشر سنوات، للضرب المبرح والتعذيب والحبس، بحجة أنه “مثلي الجنس”.

ولا ينسى العراقيون مقتل الممثل المسرحي وطالب الفنون الجميلة كرار نوشي، البالغ من العمر 27 عامًا، وذلك بعدما عثرت السلطات العراقية على جثته غارقة في الدماء، وملقاة في إحدى الساحات في شارع فلسطين، شرق العاصمة بغداد بعد تعذيب وحشي. نوشي كان محبا للحياة والألوان، يرتدي الثياب الملونة والساطعة، قميصا أصفر فاقع وبنطالا أخضر، وشعر أشقر ذهبي، لكن مظهره الخارجي الطبيعي هذا، كان سببا في مقتله، إذ تعرض على مواقع التواصل الاجتماعي للكثير من الضغوطات والتهديدات بسبب ثيابه ولون شعره، إذ اتهموه بـ”المثلية” و”الشذوذ”، ووجهوا له عبارات على وزن “شاذ، فاجر، كافر، زاني”.

وأصدر مكتب زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر توجيها بإجراء حملة جمع تواقيع مليونية لمناهضة مجتمع الميم.

وجاء في البيان الذي صدر باللغتين الإنجليزية والعربية، والذي يهدف إلى جمع تواقيع لمناهضة المثلية الجنسية “أنذر نفسي من أجل مناهضة الشذوذ الجنسي بالطرق الأخلاقية والسياسية والدينية ومناهضة المخالفات الفطرية التي جبلت عليها البشرية وأتعهد بعدم استعمال العنف بشتى أنواعه ضدهم…”.

وأصدر الصدر في وقتا سابق بيانا دعا فيه “الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات أن يتحدوا في العالم أجمع من أجل مناهضة المجتمع الميمي لا بالعنف ولا بالقتل والتهديد، بل بالتثقيف والتوعية وبالمنطق والطرق الأخلاقية”.