ماذا وراء الحفاوة..

تناقض الأجندات يحفّ بمراهنة تونس على حل من الجزائر وليبيا

"أرشيفية"

القاهرة

كثرت التأويلات بشأن تتالي الزيارات بين تونس والجزائر وليبيا. خلال أيام قليلة قام وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة بزيارة خاطفة إلى تونس حاملا رسالة من الرئيس عبدالمجيد تبون إلى الرئيس التونسي قيس سعيد. وبعدها توجهت رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن إلى الجزائر في زيارة بيوم واحد. ثم استقبلت تونس رئيس حكومة الوحدة الليبية عبدالحميد الدبيبة، بالرغم من التوتر بين حكومته وبين تونس.

وجاءت الزيارات في وقت مهم بالنسبة إلى تونس، وإلى قيس سعيد بالذات، قبل أيام قليلة من الانتخابات، وفي ظل وضع اقتصادي وسياسي صعب، وعجز الحكومة عن مواجهة موجة الغلاء في الأسعار، وخاصة جلب قروض أو ودائع خارجية من دول شقيقة وصديقة كان يمني النفس أن تقف إلى جانبه مثلما وقفت إلى جانب مصر.

ما يهم تونس الآن ليس الشعارات ولا المشاعر الأخوية، ما يهمها هو الحصول على الدعم السريع من جيرانها خاصة من ليبيا التي ظلت تونس لسنوات بوابتها نحو العالم

يواجه قيس سعيد يوميا حملات من المعارضة تتهمه بالعجز عن تغيير واقع الناس، ويواجه كذلك استعراضا خطابيا من اتحاد الشغل وأمينه العام نورالدين الطبوبي الذي وجد أن الظرف ملائم للعودة إلى الواجهة ولعب الدور السياسي الذي منعه منه الرئيس سعيد لأشهر. كما يواجه، وهذا الأهم، موجة تذمر شعبية بدأت في التصاعد بسبب ندرة بعض المواد الأساسية، وغلاء الأسعار، وعودة لوبيات الاحتكار بقوة بالرغم من تهديداته المستمرة بمواجهتها.

كل هذا الوضع يمكن أن يؤثر على الانتخابات التي راهن عليها قيس سعيد لتجديد شرعية المؤسسات التي سيعمل من خلالها على إقناع الخارج، وبالذات صندوق النقد الدولي، أن لا وجود لفراغ سياسي من أي نوع، وأن هناك جهة منتخبة شعبيا ستتولى التوقيع على القرض الذي يفترض أن تحصل عليه تونس مباشرة بعد تجديد شرعية البرلمان، ويبدو هذا شرطا من الصندوق لضمان أمواله.

لكن هل فعلا يمكن أن يجد قيس سعيد حلا لأزماته لدى الجزائر أو حكومة غرب ليبيا؟

بالنسبة إلى الجزائر، هناك مفارقة كبيرة، طرفها الأول أن الشارع التونسي يعتقد أن الجزائر هي الطرف الوحيد الذي قلبه على تونس، وأنها ستدعم قيس سعيد لضمان استقرار تونس، وفي ذلك ضمان لأمن الجزائر وتأمين لحدودها.

الطرف الثاني هو الجزائر التي تريد رئيسا تونسيا مواليا لها وحليفا تابعا لحلفها الإقليمي الجديد الذي يضم تركيا وحكومة غرب ليبيا، وقيس سعيد كان يعتقد في البداية أنه مدعوم من الحلف الإقليمي المقابل، الذي كان ينشط في ليبيا، ولهذا كانت مواقفه حاسمة في موضوع الإسلاميين في الداخل.

وبعد زيارته إلى مصر في أبريل 2021، عاد قيس سعيد أكثر حزما في مواجهة الإسلاميين. وقال في كلمة له بمناسبة دخول شهر رمضان، وفي جامع الزيتونة ذي الثقل التاريخي، إن “القرآن توجّه للمسلمين وليس للإسلاميين ولا لجمعية علماء المسلمين”، في إشارة إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الواجهة السياسية لجماعة الإخوان.

وتحدث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وقتها عن “تعاون مصري - تونسي لتجفيف مصادر تمويل الإرهاب ومواجهة الفكر المتطرف”، وهو ما فهم منه وبشكل واضح أن قيس سعيد قد التحق بالحلف المعارض للإسلاميين. ومهدت هذه الزيارة وتفاعلات المناخ الإقليمي من بعدها لإجراءات قيس سعيد في 25 يوليو 2021 بإقالة البرلمان ووقف عمل الحكومة المدعومة من الإسلاميين.


وخلال تلك الفترة، تركت الجزائر قنوات التواصل مفتوحة مع قيس سعيد، وأطلقت عنان الإشاعات لمعلومات أمنية عن نجاحها في منع استهداف قيس سعيد أو الانقلاب عليه، وهي إشاعات تنتشر بسرعة كبيرة عن طريق أذرعها في تونس. وتهدف بالأساس إلى الإيحاء بأن قلبها على قيس سعيد، وأن لها فضلا في بقائه في السلطة.

وبعد التطورات الإقليمية النوعية التي انتهت إلى انسحاب الحلف، الذي يفترض أن قيس سعيد يستند إليه، من ليبيا ومن التشابكات الإقليمية المرتبطة بملف الإسلاميين، وما تلاها من مصالحات، استلمت الجزائر الرئيس سعيد خاصة بعد أن نجحت في إقناعه بأنها في صفه، لكنها ظلت من ذلك الوقت تمنيه بالوعود والمشاريع والتمويل من دون أن يحصل على شيء ظاهر بالرغم من الحفاوة التي استقبل بها في الجزائر والتصريحات التي تتحدث عن العمق الإستراتيجي والمصير المشترك.

وضمن إشاعات جلب قيس سعيد إلى صف الجزائر وتثبيت قناعة لديه بأنها هي المنقذ يمكن أن نضع الحديث عن أن رمطان لعمامرة جاء برسالة خاصة لقيس سعيد بشأن “مؤامرة فرنسية” تستهدفه، ضمن ما يعرف بمجموعة الخمس والعشرين التي تضم سياسيين وإعلاميين معروفين بدعم إجراءات قيس سعيد في يوليو 2021، وفق ما تشير إلى ذلك وثيقة قضائية مسرّبة.

الآن، صار قيس سعيد في صف الجزائر وهي حليفه الوحيد، لكن متى يأتي الدعم لإنقاذه وتمكينه من رد حملات التشكيك والاستهانة بقدراته؟

من الصعب أن يحصل الرئيس التونسي على دعم جزائري عاجل، أي قبل الانتخابات، وستظل تعتمد الخطاب المعوّم الذي يعد ولا ينفّذ شيئا إلى أن تمر الانتخابات، وهو ما يعني أنها لا تريد قيس سعيد الذي تتعامل معه قويا كما بدأ بشعبية كبيرة.

كل المؤشرات تقول إن نسبة المشاركة في الانتخابات ستكون ضعيفة، ولن تعكس ما يريده الرئيس سعيد من تأكيد لشعبيته وشعبية البرلمان الذي يريده بجانبه. وهذا يفيد الجزائر لاحقا في فرض توليفة من توليفات “لم الشمل” التي ترفعها هذه الأيام، من خلال الدفع إلى “مصالحة تونسية” تكون برعايتها وتمثل بوابة لعودة حركة النهضة إلى الواجهة، وذلك ضمن الشروط التي يطلبها رئيس التحالف الإقليمي رجب طيب أردوغان الذي يريد أن تكون مصالح بلاده محمية بالإسلاميين.


وبالنتيجة، فإن مراهنة الرئيس التونسي على الجزائر تبدو مراهنة محفوفة بالمخاطر، إما أن يكون في صفها وحلفها بشكل واضح، أو أنها ستتركه معلقا بين الوعود والتعهدات وخطاب المشاعر الأخوية، أو أنها ستوكله لوعود رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية الذي لدى تونس علامات استفهام تجاه مواقفه وتصريحاته السابقة.

لم تكن زيارة الدبيبة إلى تونس إلا بإشارة جزائرية تهدف إلى إفهام قيس سعيد أن مصيره مرتبط بحماسه لهذا الحلف، ومدى استعداده للسير فيه بالرغم من أن قيس سعيد سبق أن رفض الأحلاف، ولديه خلاف شخصي مع أردوغان كان ظهر على السطح خلال استقبال تونس للرئيس التركي نهاية 2019.

ويعرف التونسيون أن الدبيبة لا يتحرك ضمن رؤية ليبية خالصة، وأن زيارته تأتي ضمن مقاربة جزائرية – تركية للوضع في تونس، وهو ما قد يجعل أي دعم يمكن أن يصدر عنه مشروطا بمواقف تونسية خاصة تجاه تركيا التي فتحت قنوات التهدئة مع دول المنطقة عدا تونس بسبب رفض الرئيس سعيد القاطع دخول لعبة المحاور.

الدبيبة أطلق الوعود خلال هذه الزيارة، وتعهد بخلاص ديون تونسية لدى ليبيا تراكمت منذ 2011، لكن لا شيء على أرض الواقع، ولم يبادر الدبيبة ولا الجزائر إلى وضع وديعة في البنك المركزي التونسي، ولا الإعلان عن قرض لتمويل مشاريع، ولا عن بيع النفط لتونس بأسعار تفاضلية.

ما يهم تونس الآن ليس الشعارات ولا المشاعر الأخوية، ما يهمها هو الحصول على الدعم السريع من جيرانها خاصة من ليبيا التي ظلت تونس لسنوات بوابتها نحو العالم سواء في عهد العقيد الراحل معمر القذافي أو بعد ثورة فبراير، حيث وجد الليبيون في تونس ملاذا لهم في خضم الفوضى الأمنية والسياسية التي عاشتها بلادهم. والآن تونس تطالب برد الجميل، خاصة أن عدم استقرارها سينعكس بالسلب والإيجاب على الوضع في ليبيا.