فاتورة العنصرية باهظة.. ماذا ينتظر فرنسا؟

"أرشيفية"
لم تكد التظاهرات في فرنسا بسبب رفض إصلاح نظام التقاعد الذي أقرّته حكومة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تهدأ حتى بدأت موجة جديدة من العنف حوّلت شوارع المدن الفرنسية إلى ساحات قتال ولامست بخطوطها الحرب الأهلية وخصوصا العاصمة باريس.
يعيد الحادث إلى الواجهة ملف عنف الشرطة الفرنسية، التي قتلت 13 شخصاً في حوادث مشابهة في العام الماضي، لكن تلك الحوادث لم توثّق بالصور، وجرى تعتيمٌ عليها، فيما اختلف الأمر هذه المرّة، حيث تمّ تصوير القاتل متلبّساً بجريمته، وتوثيق ظروف قيامه بالقتل، وتبيّن أن المراهق لم يكن ينوي سوى الفرار بسيارته، لأنه لم يكن يملك رخصة قيادة لها، فيما هدّده الشرطي بالقتل، وتنفيذ ما هدّد به فوراً، وبالتالي، سقطت حجّة "الدفاع عن النفس"، التي حاولت تسويقها وزارة الداخلية الفرنسية، وادّعاء أن المرزوقي حاول دهس الشرطي بسيارته.
تواصل مسلسل العنف
شهدت فرنسا ليلة سادسة من الاحتجاجات العنيفة، في تواصل لمسلسل الغضب العارم، وبالنظر إلى حجم الاحتجاجات الحالية، التي تتخللها أعمال عنف وتخريب ونهب كثيرة، فإنها تضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام أكبر أزمة يواجهها في فترتي رئاسته، إذ على الرغم من أنه دان هذه المرّة حادث القتل، واعتبره "غير مقبول"، إلا أنه ما زال يعتبر استخدام مصطلح "عنف الشرطة" غير مقبول، ويريد تركيزه على ضابط شرطة واحد، بدلاً من البحث عن مواضع الممارسات العنصرية داخل جهاز الشرطة بأكمله.
وفي هذا السياق، يقول الأستاذ المحاضر في كلية باريس للأعمال، والخبير القانوني في المفوضية الأوروبية، الدكتور محي الدين الشحيمي أنه بعد وقوع الحادثة تعاملت السلطات الفرنسية المختلفة سواء السياسية والقضائية والأمنية المعنية الأولى مع ردات الفعل والاحتجاجات بطريقة دقيقة جدا، هي كانت تحت المجهر ولن ينقصها أي خلل غير مهني آخر، حيث تداعت المؤسسات السياسية والدستورية لتقييم الاحداث والتعامل معها بطريقة مؤسساتية ومع ما تنص عليه البنود والمواثيق القانونية للحكومة تدابيرها التنفيذية، تدخل القضاء مباشرة وأوقف رجل الشرطة الجاني رهن التحقيق بسرعة وادعت عليه النيابة العامة وفتحت تحقيقا بالواقعة.
قنبلة موقوتة
ووفقا لخبراء، فإن الأحداث الأخيرة، كشفت عن قصور في سياسة تطوير مناطق الضواحي، رغم الإيجابيات التي حققتها السياسات الحكومية المتعاقبة في هذا المجال.
وتراهن فرنسا منذ 30 عاماً، فيما يعرف بسياسة " المدينة"، على تحديث الأحياء الشعبية، وهي سياسة اعتبرها البعض "مفيدة، لكنها غير كافية" لاحتواء مشكلات الضواحي، ويعتبر بعض المنتقدين أن تلك السياسة ركزت على الشكل الظاهري للضواحي، دون أن تركز على علاج المشكلات الاجتماعية والإنسانية.
وتشير تقارير، إلى أن ما ظهرت عليه الشوارع الفرنسية من عنف، يؤشر إلى حال من الاحتقان المتراكم، في أوساط سكان الضواحي الفرنسية والذي يجد شرارة توقظه من وقت لآخر، مع ارتكاب الشرطة الفرنسية لحوادث مشابهة، للحادث الأخير الذي قتل فيه الفتى الجزائري الأصل نائل.
ويعتبر مراقبون، أنه وحتى مع تمكن سلطات الأمن الفرنسية من إخماد العنف هذه المرة، فإن هذا لا يعني أن الأزمة المزمنة، قد تم حلها، وهم يعتبرون أن القطيعة والعزلة، التي يعيشها سكان الضواحي الفرنسية، ستظل بمثابة قنبلة موقوتة، قد تنفجر في كل مرة مع وقوع أي حادث يشعلها.
وبنظر هؤلاء فإن سياسة تطوير الضواحي الفرنسية، وعلاج مشكلاتها والمعروفة بسياسة "المدينة"، أثبتت فشلا حتى الآن، لتركيزها على الجانب الشكلي التجميلي، في علاج عشوائيات المساكن، وتحسين سبل ربط الضواحي بالمدن الفرنسية، عبر مواصلات أفضل، لكن الأمر يحتاج إلى علاج جذري، يركز على رفع الغبن، وإزالة مظاهر وأسباب التمييز العرقي، واحتواء الجيل الناشئ في تلك المناطق، من أجل سلام اجتماعي يدوم.
مراهقون صغار
وهذا يدل وفق ما أكد الشحيمي لـ "جسور" على حسن سير أعمال السلطات القضائية، فالسلطات الأمنية تعاملت بحزم وحسم وبخطوات حريصة جدًا، وهي تريد التعويض عن الخطأ والسلوك غير المهني الذي قام به أحد عناصرها، والذي يرتقي لمرحلة الخطأ الجسيم والخيار التعسفي والعنصري، لافتا إلى أنّ المؤسسة الفرنسية تتحمّل وزر عدم تدريب عناصرها جيدًا وثقلهم بطرق التعامل المناسبة مع غير الممتثلين من دون النيل من الارواح والكرامات.
وتابع الشحيمي لـ "جسور" أنه تم إثبات وبحسب الإحصائيات أن أكثر من ثلث المحتجين هم من الشباب القصار وهذا يعكس الخطر الكبير داخل التركيبة المجتمعية لسكان الضواحي وأسلوب الحياة والتربية والاولويات وكأن هناك تباين بين سكان الاسر الفرنسية حسب المناطق والدوائر والمناطق الادارية وهو ما يخلق اشكالية لمعالجة موضوع الاندماج التناغمي التام في المجتمع فهم الجيل الثالث والرابع وحتى الخامس وفرنسيين مولودين على الارض الفرنسية، وكذلك اشكالية اتخاذ الاجراءات القضائية بحيث لا يخضع القصار الى قانون العقوبات وتشكل كلتا المسألتين ضغط اضافي رغم التعامل الناجح للدولة الفرنسية مع الاحداث وانخفاض وتيرتها.
خسائر بملايين الدولارات
وبلغت إجمالي الخسائر الناجمة عن أعمال الشغب والاحتجاجات في فرنسا، إثر مقتل المرزوقي حوالي 55 مليون يورو، بينما كشف استطلاع للرأي أن الفرنسيين يؤيدون فرض حال الطوارئ، بعد أحداث العنف الأخيرة.
ووفقا لتقارير، فقد بلغت الخسائر في الممتلكات العامة في باريس حوالي 20 مليون يورو، بينما بلغت الخسائر في الممتلكات الخاصة حوالي 35 مليون يورو.