العراق: غرافيتي ثورة تشرين.. بين حماية الكاظمي وقمع السّوداني

"أرشيفية"
محاولات حثيثة لطمس الهوية المجتمعية الثائرة في العراق تجري حاليًا، في مبادرة قمع تعمد حكومة محمد شياع السوداني تطبيقها عبر إصدار قرار يقضي بمسح جميع لوحات الغرافتي داخل نفق ساحة التحرير التي رسمها ثوار العراق إبّان ثورة تشرين 2019، لتكتب نهاية مؤسفة لذكرى كان رفض رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي محوها بعد أن اعتبرها صفحة مشرقة في تاريخ العراق وبابًا لتأريخ الذاكرة الشعبية.
فالقادم نحو ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد يرى وبكل وضوح اللوحات الفنية العملاقة التي أبدعتها أنامل الشباب العراقي من فناني الجرافيتي الذين شاركوا في الثورة منذ لحظة اندلاعها عبر لوحات تعبيرية زيّنت جدران ساحة التحرير والابنية المحيطة بها لتجسّد معاناة شعب على مدار ستة عشر عاماً.
تُذَكّر رسوم الغرافيتي العراقيين بشعارات الثورة التي خرجوا من أجلها ولا يزالون يحلمون بتطبيقها على أرض الواقع بحسب ما أكد المحلل السياسي العراقي، علي السامرائي، في اتصال مع "جسور" وتحفزّهم على الإستمرار في المطالبة بها، لكن قرار رئيس الوزراء محمد شياع السوداني القاضي بإزالة هذه الرسوم، بعد سنوات من حمايتها في عهد الكاظمي، لم يثر امتعاض الشباب العراقي فحسب، بل فتح الباب أمام تقويض أساسات الذاكرة الشعبية للعراقيين، إمعاناً في محوها وطمسها إلى غير رجعة، مع السعي في الوقت ذاته إلى فرض نسيانًا دكتاتوريا، باعتبار أنّ هذه اللوحات الثوريّة الحيّة تنطق بما يشعر به ويأمل المواطن ويسعى للوصول إليه من عيش كريم يسوده الأمن والأمان وأبسط حقوقه المشروعة.
"لا يمكن أن تُحذف"
ويؤكد السامرائي أنّ رئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي، وبعد انتهاء الثورة رفض إزالة الرسوم واعتبرها ذاكرة شعبية وصفحة مشرقة من تاريخ العراق تجسّد معظم أحداث الثورة، لافتا إلى أنّ حركة تشرين ساهمت بشكل كبير في ولادة حكومة السوداني بصورة غير مباشرة، وكانت بمثابة الشعلة التي رسمت ملامح طريق تشكيل الحكومة الحالية، فقد أنهت الدورة السابقة وعجّلت بانتخابات مبكرة، ثم لاحقا ألقت بظلالها على لون وشكل حكومة السوداني، وعمدت الكتل السياسية المتصدّرة للمشهد على إعادة النظر بجميع سياساتها وأنشطتها ثم لاحقا بشخوصها، وقدّمت مسؤولين تنفيذيين.. بنكهة خاصة تتلاءم ومدخلات تشكيل الدورة البرلمانية الحالية، التي انبثق عنها حكومة بمعايير تختلف عن سابقاتها، وسواء أزيلت الرسومات بقرار سياسي أو خدمي كما أشار بيان وزارة الداخلية.
وبيّن السامرائي لـ "جسور" أنّ صفحة تشرين لا يمكن أن تطوى وتحذف بمسح الرسوم أو غيرها، وان التزمت القوى السياسية والحكومة الحالية ببرنامجها المعلن، واستمرت تقتلع وتكافح الفساد، فستكون قد لبّت بعض مطالب حركة تشرين وأهدافها، قائلا: "اجتهد عدد من فناني وشباب العراق، بتزيين جدران نفق ساحة التحرير، عبر "رسوم الجرافيتي" لتخليد أبرز أحداث احتجاجات 25 أكتوبر/ تشرين الأول، إضافة إلى إحياء الأمل بمستقبلٍ أفضل."
"مسألة منطقية"
في المقابل، رأى الكاتب والباحث في الشأن السياسي العراقي، الدكتور قاسم بلشان التميمي، أنّ الكاظمي لم يزل أو يمسح هذه اللوحات التشرينية باعتباره المولود الشرعي لثورة تشرين، هذه الثورة التي أسقطت عادل عبد المهدي وجاءت بالكاظمي الذي يعتبر ولدا بارا للرحم الذي أنجبه وهو رحم تشرين، بينما السوداني لكون حكومته حكومة تقديم خدمات يعمل على إزالتها لتطوير وتحسين العاصمة وغيرها من المحطات التي شهدت احتجاجات إبان ثورة 2019، وبالتالي هي مسألة منطقية وفق التميمي، عندما يتمّ مسح هذه اللوحات التي تذكّر بالفترة السوداوية التي عاشتها البلاد باعتبار أن الكثير من أبناء الشعب العراقي قد قتلوا أو غيبوا.
وقال التميمي: "أعتقد أنّ السوداني يقوم بعملية مسح هذه الرسوم الفنيّة ليس لأنه ضدّ إرادة شباب العراق بقدر ما يريد أن يقول دعونا نبدأ ونعمل معا للمحافظة على بلدنا."
التحرير في لوحة
وحول هذا الموضوع، يؤكد الرسام محمد ماجد أنّ هذا الفن انتشر بكثافة في العراق بالتزامن مع الحراك الاحتجاجي في أكتوبر/ تشرين الثاني 2019، وحينها أطلق رسوماته المعبّرة عن حال الشباب العراقي في ساحة التحرير.
ووصف ماجد في اتصال مع "جسور"، سلوك السوداني بأنه "محاولة بائسة لإخفاء جمال وأدب وثقافة الثورة وتنمّ عن عجز أعداء الثورة عن إدراك تجذّر الإنتفاضة الشعبية ووعيها في كل قلب وفؤاد، مطالبا بإيقاف مسح الجداريات فوراً.
ودعا ماجد جميع الفنانين إلى مواصلة رسم الجداريات وممارسة كافة حقوقهم في التعبير وحماية الحقوق المنتزعة في كل المواقع، بخاصة بعد اعتقال قوة أمنية علي عباس، من مدينة الناصرية، المعروف في مواقع التواصل الاجتماعي باسم "لاري"، يتطوع منذ سنوات في تنظيف الشوارع، ورسم الجداريات (غرافيتي)، بدعوى الاشتباه في "تمويله من حزب البعث"، بعد أن رسم جدارية لشاعر راحل ظنوا أنها لرئيس النظام السابق صدام حسين.
وبعد يوم واحد، أطلقت القوات الأمنية سراح لاري"، بعد أن وقّع على تعهد خطي بعدم تنظيم حملات تنظيف، والتوقف تماماً عن رسم الجداريات.
ويضيف ماجد أنّ انتفاضة تشرين الأول/أوكتوبر المباركة فجّرت مواهب الهواة ومحبي الرسم الجرافيتي وأطلقت العنان لمخيلتهم لتحيل جدران بغداد الصماء التي لطالما اصطبغت بدماء ضحايا التفجيرات الارهابية الجبانة، الى لوحة كبيرة ستحكي في يوما ما قصة شعب وثورة اندلعت تحت نصب الحرية، لوحة ستترك اثراً لا يمحى في نفوس الأجيال المقبلة حتى لو أزيلت عن الجدران يوما ما.