مهاجرون أفارقة وعرب بفرنسا: بنينا ازدهارها بسواعدنا وثروات بلداننا

"أرشيفية"

فرنسا

"الفرنسيون معروف عنهم أنهم عنصريون، وأنا عايشت ذلك، وفي فرنسا تحس نفسك أجنبيّاً وغير مندمج، وأقلية منهم فقط هي التي تتبنى فكراً منفتحاً تجاه المهاجرين، ولا تنظر إليهم باعتبارهم أجانب"، هكذا قالت سكينة (29 عاماً)، مغربية أقامت في فرنسا 5 سنوات (ما بين عامي 2016 و2021)، لـ"جسور بوست"، متحدثة عن تعامل فرنسا، سلطة ومجتمعاً، مع المهاجرين الأفارقة والعرب والمسلمين.

سكينة ومهاجرون آخرون في فرنسا ينحدرون من مجموعة من البلدان العربية والإفريقية، رووا لـ"جسور بوست" تجاربهم الحياتية في فرنسا، منهم من عانى من العنصرية على يد الدولة وأفراد المجتمع هناك، ومنهم من لم يتعرض لها، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن العنصرية موجودة في فرنسا، التي قال عنها خبير مغربي في مجال الهجرة تحدثت إليه "جسور بوست" -ضمن عدد من الحوارات، التي أجريناها مع خبراء من عدة دول عربية وإفريقية، ومن فرنسا كذلك، قدموا قراءاتهم بخصوص سياسة فرنسا الخاصة بإدماج أولئك المهاجرين وكيفية تعاملها، سلطة ومجتمعاً، معهم- إنها "تعاملت معهم بإهمال، بعدما بنوها هم وآباؤهم ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، وكانوا سبباً في ازدهارها الحالي، الأمر الذي يجهله العديد من أبناء الجيل الحالي". 

وعادت قضية العنصرية، والتهميش، وغياب العدالة الاجتماعية والإدماج الحقيقي، في حق المهاجرين الأفارقة والعرب والمسلمين في فرنسا، إلى الواجهة من جديد بعد مقتل الفتى الفرنسي من أصول جزائرية، نائل (17 عاماً)، على يد شرطي فرنسي في نقطة تفتيش مرورية في مدينة نانتير الفرنسية، في 27 يونيو المنصرم، خاصة مع ما صاحب الحادث من هجوم حاد من قِبل اليمين الفرنسي على الفتى وعلى أولئك المهاجرين، بعد الاحتجاجات العنيفة، التي شهدتها فرنسا على خلفية قتله، وأيضا ما صاحب الواقعة من دعم كبير للشرطي، الذي أطلق النار على الفتى دون أن تكون هناك حاجة لذلك، ودون أن يكون في حالة دفاع عن النفس، لدرجة أن الدعم بلغ حد إطلاق حملة تبرعات لدعم عائلة الشرطي، جمعت أكثر من مليون يورو في أقل من أسبوع، ما يمثل 4 أضعاف ما جمعته في ذلك الوقت حملة لجمع تبرعات لوالدة نائل. 

وأظهر مقطع فيديو يوثق الحادث، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، رجلي شرطة فرنسيين يقفان بجانب باب السائق في السيارة، التي كان يقودها الفتى نائل، وهي في وضع وقوف، وأحدهما يوجه سلاحه إليه، قبل أن يحاول الفتى الهروب بسيارته من نقطة التفتيش، ويطلق عليه الشرطي النار، لتصطدم السيارة لاحقاً بجدار بعد أن تحركت مسافة قصيرة إلى الأمام.

وفتح القضاء الفرنسي تحقيقاً في الحادث، وأودع الشرطي الحبس الاحتياطي، في الوقت الذي اندلعت فيه احتجاجات عنيفة، وأعمال شغب، في مناطق مختلفة من فرنسا على خلفية قتل نائل، تسببت في تخريب مجموعة من الفضاءات والممتلكات العمومية والخاصة.

وقدر عدد المهاجرين، الذين كانوا يعيشون في فرنسا عام 2021 بنحو 7 ملايين، أي 10,3% من السكان، مقابل 6,5% في عام 1968، بحسب دراسة ديموغرافية بعنوان "المهاجرون وأحفاد المهاجرين في فرنسا"، نشرت في 30 مارس 2023، رصدت لأول مرة منذ 10 سنوات تطور الهجرة على مدى عدة أجيال. 

وفي ما يخص أصولهم، كشفت الدراسة، التي أنجزها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، أن نحو نصف المهاجرين (3,31 مليون من أصل 6,96 مليون) في عام 2021 من إفريقيا، بينما يمثل المهاجرون القادمون من شمال إفريقيا مليوني شخص، بعدما كان عددهم 1,63 مليون في عام 2011، في حين تراجع عدد المهاجرين من إسبانيا وإيطاليا إلى 531 ألفاً في 2021، بعدما كان 543 ألفاً في عام 2011.

مهاجرون يروون تجاربهم

سكينة (29 عاماً)، مغربية أقامت في فرنسا 5 سنوات (ما بين عامي 2016 و2021)، قالت لـ"جسور بوست" إن "الفرنسيين معروف عنهم العنصرية، وإنها تؤكد ذلك، وإنكَّ في فرنسا تحس نفسك أجنبياً وغير مندمج، وإن أقلية فقط هي التي تتبنى فكراً منفتحاً تجاه المهاجرين، ولا تنظر إليهم باعتبارهم أجانب".

المغربية، التي درست الماجستير في فرنسا، واشتغلت بعد ذلك في مجموعة من شركات القطاع الخاص في باريس، أوضحت أن صور العنصرية ضد المهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة في فرنسا متعددة، وتتجسد -بحسب تجربتها الخاصة- في مجموعة من المظاهر، أولها، والذي ترى أنه "أدى إلى مأساة المراهق نائل، هو المحيط أو الأحياء، التي كبر فيها أمثال نائل، وهي أحياء الـ"HLM" (مساكن لذوي الدخل المحدود)، التي تسكن فيها طبقة فقيرة، ويكون فيها الكثير من المهاجرين الأفارقة والمسلمين، ما يسهم، وفق سكينة، في نشأة هؤلاء الناس في محيط غير جيد".

سكينة، وهي شابة غير محجبة، اشتكت أيضاً من "صعوبة الحصول على مواعيد في مكاتب الحكومة الفرنسية، التي تشهد ضغطاً، خصوصاً في جهة باريس، من أجل تجديد تصاريح الإقامة، بسبب عدم توفر العدد الكافي من الموظفين لخدمة المهاجرين، وهو ما اعتبرته سكينة عنصرية ضد هؤلاء، الذين خسر الكثير منهم -بحسبها- وظائفهم، واضطروا إلى مغادرة فرنسا، لأنهم لم يستطيعوا تجديد تصاريح إقامتهم هناك".

واشتكت سكينة من "التحرش المعنوي، الذي قالت إنها عانت منه في الشركات الأربع التي عملت بها هناك، وأوضحت أنه عقيدة في الشركات الفرنسية، ويمارَس على الفرنسيين أيضاً، لكن على الأجانب بشكل أفظع، ومن توجيه فرنسيِّين ملاحظات لها مفادها أن لكنتها المغربية تظهر أثناء تحدثها اللغة الفرنسية، وأنها لا تنطق كلماتها بالشكل الصحيح، رغم أنها تتحدثها بشكل جيد، ولا ترتكب أخطاءً، بحسب قولها، إضافة إلى صعوبة حصول المحجبات على وظائف في فرنسا، وأن فقط بعض الشركات متعددة الجنسيات هي التي تقبل توظيفهن".

وخلافاً لسكينة، كانت لجمال (اسم مستعار) (31 عاماً)، مغربي مقيم في فرنسا منذ أكثر من 7 سنوات، تجربة حياتية جيدة في فرنسا، لم يواجه خلالها، بحسب قوله، العنصرية أو سوء المعاملة في جميع الأماكن، سواء خلال فترة دراسته، أو عمله في العديد من المدن الفرنسية، أو في الإدارات الرسمية، أو في تفاعلاته مع الناس في الحياة اليومية، أو عندما يذهب للتسوق، أو في المطاعم، أو عندما يطلب الأكل عبر تطبيقات التوصيل، أو يستقل وسائل النقل".

جمال، الذي يقطن حالياً في مدينة مارسيليا، ويدرس في جامعة "إيكس مارسيليا" بالمدينة نفسها، قال لـ"جسور بوست" إنه "كما في جميع بلدان العالم، فإن فرنسا فيها أشخاص جيدون وآخرون سيئون، وأن هناك أشخاصاً يتقبلون المختلفين عنهم، بينما هناك آخرين لا يفعلون"، واصفاً حادثة نائل بأنها "خطأ يمكن أن يرتكبه أي حامل سلاح، وشيء يحدث في العالم كله، وليس دائماً بسبب العنصرية، وأنه ليس عذراً لحرق السيارات، أو المنازل، أو مؤسسات عمومية، وأن الأمر يجب أن تتم تسويته من خلال العدالة، وأنه لا أحد فوق القانون". 

لكن رغم تجربة جمال الحياتية الجيدة في فرنسا، التي قال إنه لم يتعرض خلالها لأي مظهر من مظاهر العنصرية أو سوء المعاملة، فإنه لا ينكر وجود العنصرية في فرنسا"، معتبراً أن "إطلاق حملة لجمع تبرعات لشخص (الشرطي) قتل شخصاً آخر مهما كان أصله، وتكبر الحملة بذلك الشكل، فهذا يعني أن هناك أشخاصاً يقبلون هذا التصرف، ولديهم إحدى سمات العنصرية، رغم أن ذلك ليس واضحاً ومباشراً، ولا يجرؤون على إظهاره أمامك، لكنه موجود بداخلهم". 

لويزا (28 عاماً)، جزائرية مولودة بفرنسا وحاملة لجنسيتها، قالت لـ"جسور بوست" إنها "لا تشعر بأنها تتعرض للعنصرية في فرنسا، لأن شكلها وبشرتها الصافية لا يوحيان بشكل صريح بأنها مغربِيَّة، وأنها خلال فترة دراستها لم تشعر بالعنصرية أو التهميش من طرف مدرسيها أو زملائها في الفصل الدراسي لأنها عربية- مسلمة"، معتبرة أن "اسمها الشخصي ربما قد يكون لعب دوراً في ذلك، وجعلهم يظنون أنها فرنسية أو أوروبية، خصوصاً قبل أن ترتدي الحجاب". 

ولدى لويزا، الحاصلة على ماجستير في القانون، والتي تقطن في مدينة تولوز حيث تعمل في القطاع العام في الإدارة العمومية الترابية، انطباع بأن العنصرية يُشعَر بها أكثر تجاه الرجال، الذين يوحي شكلهم بشكل صريح بأنهم مغاربِيُّون، وأنه في سياقات معينة، يمكن أن يطول ذلك النساء أيضاً، مستدلة بما حدث، قبل سنوات، لصديقة لها يوحي شكلها بشكل صريح بأنها مغربِيَّة، عندما ذهبتا معاً إلى محل لبيع مواد التجميل، وظل حارس الأمن يتبع صديقتها، وافترضتا أنه قام بذلك ليتأكد من أنها لا تسرق شيئاً".

وقالت لويزا إنه "إذا كنت عربيّاً أو إفريقيّاً، وكان شكلك يوحي بذلك، فإن نسبة إيقافك في نقاط التفتيش المرورية، وتفتيش سيارتك من طرف الشرطة، تكون أكبر مقارنة مع الفرنسيين". 

وترتدي لويزا الحجاب منذ نحو عامين، لكنها تضطر إلى استبداله بقبعة شتوية أو صيفية في العمل، نظراً لأنها موظفة في القطاع العام، ولأن مبدأ علمانية الدولة يفرض الحياد في الوظيفة العمومية"، وهو ما "يزعج لويزا، ودفعها إلى البحث عن عمل في مكان آخر، لكن حتى في القطاع الخاص، الذي قالت لويزا إنه مسموح فيه بارتداء الحجاب، فإن الأمر معقد، بحسب قولها، وأنكِ عندما تقومين بمقابلة هاتفية، فإن كل شيء سيمر بشكل جيد، ولكن عندما تقدمين نفسك وجهاً لوجه وأنت ترتدين الحجاب، فإنهم سيبحثون عن عذر لعدم توظيفك"، معتبرة ذلك "عنصرية في التوظيف". 

ولا تعاني لويزا في مدينة تولوز، وفق شهادتها لـ"جسور بوست" من مشكلات مرتبطة بالعنصرية بسبب ارتدائها الحجاب، لأن المدينة تضم -بحسبها- جالية مسلمة كبيرة، ولكن في مدن أخرى قد تكون هناك نظرات أو ملاحظات، لكن ليس بشكل قوي جداً"، بحسب لويزا. 

أما هبة (اسم مستعار) (19 عاماً)، تونسية تقيم في باريس منذ سبتمبر 2021 بغرض الدراسة، فقالت لـ"جسور بوست" إنها "راضية عن حياتها في فرنسا، وإنها لم تلتقِ أحداً هناك جعل إقامتها غير سارة، وإنها تفاجأت عند وصولها إلى هناك، ولم تكن تتوقع أن يكون البلد كما وجدته، إذ وجدت الفرنسيين، بحسب تعبيرها، مضيافين ودافئين جداً، وفضوليين تجاه تقاليد وثقافة بلدك، وعندما تقدم لهم أكلاً خاصاً ببلدك يسعدون بذلك"، موضحة أن "حياتها في فرنسا كانت صعبة في البداية، لأنها بلد، وناس، ومحيط، جدد بالنسبة إليها، لكنها شيئاً فشيئاً بدأت تستأنس، وتعودت، وأن دراستها في تونس في مدرسة فرنسية، وتعاملها مع فرنسيين، ساعدت بقدر معين".

هبة، التي تدرس تخصص الإدارة في جامعة جان مولان ليون 3 في مدينة ليون، قالت إنه "كما في كل بلد، يجب أن تحترم القوانين والنظام في فرنسا، وألا تحدث المشكلات، وأنك إذا كنت تقوم بكل شيء بشكل صحيح، فلن تواجه أية مشكلات، سواء مع الإدارات العمومية الفرنسية، أو مع الأشخاص، وأن الكثير من العرب لم يفهموا بعد أننا في فرنسا، وأننا نحن من يجب أن نتأقلم معهم". 

هبة، وهي غير محجبة، تحدثت أيضاً عن أمر اعتبرته جيداً في فرنسا، خصوصاً بالنسبة للطلبة، كيفما كانت أصولهم، وهو المساعدات والمنح الكثيرة. 

وفي المقابل، أكدت هبة وجود "فرنسيين عنصريين، لا يقبلون الأشخاص، ولا يقبلون الاختلاف، لكن ذلك موجود -وفق قولها- في جميع الأماكن وليس في فرنسا فقط، وأن هناك الكثير من العرب في فرنسا حكاياتهم إيجابية، وهناك استثناءات لأشخاص عاشوا تجارب سيئة هناك، لكن ذلك يحدث -بحسبها- في جميع البلدان". 

ونشرت اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان في فرنسا، في عام 2014، تقريراً كشف تفشي العنصرية في البلاد، وتغلغلها في كافة طبقات المجتمع، وبيَّن التقرير وقتها أن مستوى التسامح في البلاد في تراجع مستمر منذ 4 سنوات، وأن العنصرية لم تعد تترجم باعتداءات جسدية، لكن الألفاظ العنصرية تنتشر بين كافة طبقات المجتمع.

فشل فرنسي في سياسة الإدماج 

قال أستاذ قضايا الهجرة في المغرب بجامعة محمد الخامس في الرباط، والكاتب العام للجمعية المغربية للدراسات والأبحاث حول الهجرة، محمد الخشاني، إن "قضية نائل هي النقطة التي أفاضت الكأس، وإن هناك آلافاً وربما مئات الآلاف من نائل في فرنسا، يمكن أن يحدث لهم ما حدث له، وإن ذلك راجع إلى فشل سياسة الإدماج في فرنسا فشلاً ذريعاً، بسبب الإهمال الذي تعاملت به الحكومة الفرنسية مع أولئك المهاجرين، الذين بنوا فرنسا، وبناها أيضاً آباؤهم ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، وكانوا سبباً في ازدهارها الحالي، وهو ما يجهله المواطن الفرنسي"، بحسب الخشاني. 

محمد الخشاني

وأفاد الخشاني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، بأن مشكلة الاندماج تظل مشكلة عويصة بالنسبة للمهاجرين العرب أو الأفارقة، وبأن فرنسا فشلت فشلاً تامّاً في سياسة الاندماج، وبأنها كانت تتوفر على مجلس أعلى للاندماج، وتم إغلاقه منذ مدة، وتبنت سياسة "دع الأمور تسير" منذ 3 أو 4 عقود، وهو ما كانت نتيجته الأساسية أن أولئك المهاجرين أصبحوا يعانون من تمييز صارخ على جميع المستويات".

وتابع الخشاني موضحاً أن المهاجرين يعانون من تمييز صارخ "على مستوى الشغل، وأنه لا يمكن الحديث عن الاندماج بالنسبة للعاطل، لأن العدو الأساسي للاندماج هو البطالة، وأن معدلات البطالة وسط المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، أو العرب، هي الأعلى في جميع الدول الأوروبية بدون استثناء"، مبرزاً أنهم "عندما يجدون الاسم عربياً، أو إفريقياً من جنوب الصحراء، تكون حظوظه في التوظيف ضئيلة، وأن عدة أبحاث أجريت في هذا المجال، من ضمنها بحث أجراه -وفق الخشاني- المكتب الدولي للشغل، كشف أن الإقصاء في التشغيل يقع على 3 مستويات: وهي الاسم، إذا كان علي، أو محمد، أو عبدالسلام، أو مامادو، وأنه إذا استطاع أن يعبر هذه المرحلة، يتم الإقصاء على المستوى الثاني المتمثل في المقابلة، التي تكون بين لجنة التوظيف والمرشح، ثم إذا استطاع عبور هذه المرحلة أيضاً، يقصى في المستوى الثالث الخاص بالقرار النهائي، بحيث إنه في المداولة إذا كان هناك شخص اسمه جاك مثلاً، وينافسه على الوظيفة اسم عربي، يختارون الأوروبي حتى إذا كان العربي صاحب مستوى مهم"، بحسب الخشاني، الذي بيَّن أن "السبب وراء البطالة في صفوف آلاف الشباب في ضواحي المدن الكبرى، هو هذه النقطة في الكثير من الأحيان".

وبيَّن الخشاني أنه "على المستوى الثاني المتعلق بالسكن، فعندما تُسكِن أولئك الناس في الضواحي خارج المجال الحضري، فإنك تقريباً تحكم عليهم بنوع من التهميش، وتخلق ثقافة ثانوية خاصة بهذه المجموعة، ولا تسمح لهم بالانصهار والاندماج في المجتمع الأوروبي: الفرنسي، أو الألماني، أو الإيطالي"، مردفاً أن "مشكلات الضواحي في المدن الفرنسية، ومن بينها مارسيليا مثلاً، لديها انعكاس على مستوى الأمن، لأن أولئك الشباب غير المتمدرسين، والذين لا يشتغلون، يصبحون -بحسب الخشاني- رافضين للواقع الأمني، الذي يمكن أن يفرض عليهم"، مبرزاً أن "البيئة التي يتربى فيها أولئك الأطفال والشباب هي السبب، وليس هم".


وأوضح المتحدث نفسه، أن "اليمين المتطرف يحكم على الأصل، ويقول إن هؤلاء لديهم جينات إجرامية، وهذا شيء غير صحيح -وفق الخشاني- الذي بيَّن أن "البيئة في تلك الدول هي التي تخلق الانحراف هناك، وأن هناك أطروحات أجريت في مجال الإجرام في صفوف المواطنين غير الأوروبيين في تلك الدول الأوروبية، وأظهرت أن السبب وراء هذا الانحراف هو البيئة، وكيفية التعامل معهم".

وأفاد الخشاني بأن "هذا كله تواكبه عملية عنصرية صارخة، تجعل أولئك المهاجرين يحسون أنهم منبوذون وسط تلك المجتمعات، وأنهم محكوم عليهم بالعيش فيها، وأن ذلك يذكيه ويغذيه صعود اليمين المتطرف في جميع الدول الأوروبية بدون استثناء، والذي يجاهر بحقده وعنصريته ضد المهاجرين، الأمر الذي يخلق -وفق الخشاني- بيئة عدوانية، ما يؤدي إلى هذه الاشتباكات، التي تكون أحياناً بين أولئك الشباب المهاجرين ورجال الأمن".

استغلال المهاجرين في بناء فرنسا 

ومن جانبه، قال المحلل السياسي التونسي، باسل ترجمان، إن "الدولة الفرنسية لا تزال للأسف تتعامل بمنطق فيه الكثير من استعلاء المستعمر على المستعمرين، وإنها فتحت أبوابها لموجة الهجرة في خمسينيات وستينيات وإلى غاية منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بهدف بناء المشروعات الحياتية للشعب الفرنسي"، مبرزاً أن "من حفر أنفاق مدينة باريس كلها هم العمال المغاربة والأفارقة، وأن من بنى كل المؤسسات في فرنسا هم هؤلاء، وأن هذه الأخيرة كانت تعتبر تلك الهجرات مؤقتة، ولذلك لم تهتم لا بتعليم أبنائهم، ولا بإدماجهم الاجتماعي، ولا باحترام حقوقهم في الحياة الكريمة والعيش بشكل متناسب وسط المجتمع الفرنسي، واعتبرتهم غرباء ومهاجرين اقتصاديين سينهون مهامهم ويرحلون". 
 

باسل ترجمانباسل ترجمان

وأضاف ترجمان، لـ"جسور بوست"، أننا "نتحدث اليوم عن الجيل الثالث للهجرة، وأن هذه الأجيال لا تزال مهمشة إلى غاية اليوم، ولا تزال هناك أحياء الـ"HLM" (مساكن لذوي الدخل المحدود)، وهي عبارة -بحسب المتحدث نفسه- عن محتشدات لا تتوفر فيها أدنى ظروف الإنسانية واحترام البشر"، مردفاً أن "أبناء أولئك المهاجرين يواجهون مشكلات في ما يخص النجاح في المسار التعليمي، وفي الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، لأنه ليس هناك اهتمام بالرعاية التعليمية، أو تأمين التدريب المهني لهم، وأن هذه السياسة كانت لها انعكاسات كبيرة وخطيرة جداً، وخلقت حالة من الصدام".

وأبرز ترجمان أن "معظم الدول الإفريقية التي احتلتها فرنسا تعاني اليوم من الفقر، والجهل، والتخلف، وأن ثرواتها نهبت، ولا أحد يعلم اليوم كيف تم ذلك، وأن فرنسا لعبت دوراً سلبياً، من خلال اعتمادها على مجموعات لتحكم عبرها تلك الدول، وليكونوا عملاء ومأجورين لها، لنهب ثروات تلك الدول، وخدمة تلك المجموعات، واتجهت فرنسا لمغادرة دول القارة الإفريقية رويداً رويداً، وتترك فراغات جيو استراتيجية فيها، جراء سياستها الخاطئة في التعاطي مع شعوب دول إفريقيا". 

وأوضح ترجمان أن "فرنسا اليوم على علاقة سيئة مع كل دول المغرب العربي بلا استثناء، وأن هذه معادلة غريبة، إذ نشاهد، وفق المصدر ذاته، علاقة سيئة جداً لفرنسا مع المغرب، وعلاقة سيئة مع الجزائر، وعلاقة سيئة مع تونس، وعلاقة سيئة مع عبدالحميد الدبيبة والحكم في طرابلس، وعلاقة غير إيجابية مع مصر، أي المحيط الجيو استراتيجي لفرنسا"، معتبراً ذلك "أمراً محيراً، ويعكس أن فرنسا ترفض تغيير سياسة الاستعلاء، وأن هذا الموقف ينعكس في تعاملها مع المهاجرين، الذين تجاوز بعضهم الـ50 والـ55 والـ60 سنة في فرنسا، ولم يستطيعوا حتى اليوم أن ينالوا حقوقهم، أو حقوق أبنائهم وأحفادهم، في أن يعيشوا بكرامة، ويندمجوا بشكل كامل في المجتمع الفرنسي".


ورداًّ على سؤال "هل تقتصر سياسة الاستعلاء، والتهميش، والعنصرية، ضد المهاجرين العرب والأفارقة والمسلمين في فرنسا، على الجانب الرسمي فقط، أم تتجاوزه لتشمل أيضاً أفراد المجتمع؟"، قال ترجمان إن "الدولة مرآة عاكسة لوضع وواقع المجتمع الفرنسي، الذي لا يزال إلى غاية اليوم رافضاً لفكرة قبول الآخر والتعامل معه"، مردفاً أن "الفرنسيين لم يسألوا أنفسهم أنهم استعمروا الدول الإفريقية لمئات السنين، ونهبوا ثرواتها، وبنوا حضارتهم على حساب دماء أبنائها".

وبيَّن ترجمان أن "التعامل اليوم مع ملف الهجرة، يجب أن يخرج من منطق الاستعلاء، ويعود إلى منطق الحوار والإدماج، خاصة أن أولئك المهاجرين فرنسيين"، مستغرباً أنه "عندما قتل الشاب نائل تذكروا أصوله، الأمر الذي يعكس -وفق المتحدث نفسه- رؤية عنصرية، لأنه ولد في فرنسا، ووالدته كذلك، وأن هناك اليوم أجيالاً من المهاجرين، وأنه عندما يكون هناك أي إشكال يقولون إنه من أصول غير فرنسية"، وهو ما اعتبره ترجمان "عنصرية مجتمعية خطيرة متأصلة في العقل الفرنسي، الذي يرفض في كثير من الأحيان الآخر، ويعتبره من طبقة العمال والخدم، الذين يقدمون خدمات لفرنسا، وعليهم في ما بعد أن يرحلوا إلى أوطانهم".

ويعيش في فرنسا 5.2 مليون شخص في أحياء فقيرة، وهم يمثلون 8% من سكان فرنسا، بحسب بيانات معهد الإحصاء الوطني "إنسي" لعام 2023، وولد 23,6% من قاطني تلك الأحياء -بحسب المصدر نفسه- خارج فرنسا. 

وسجل معدل الفقر في الأحياء الشعبية عام 2019 أعلى 3 مرات من أي منطقة أخرى في البلاد، حيث يعيش 43,3% من سكان تلك الأحياء تحت خط الفقر، بينما تبلغ النسبة في باقي مناطق البلاد 14,5%. 

ويبلغ متوسط الدخل السنوي في الأحياء الشعبية 13770 يورو لكل أسرة، في حين يبلغ 21730 يورو في المناطق المحيطة بها، وتصل نسبة البطالة في صفوف القوى العاملة في الأحياء الهامشية الفرنسية إلى 18,6%، بينما تبلغ النسبة 8% على المستوى الوطني.

الجزائريون "المستهدفون الأوائل" 

ومن جهته، قال الحقوقيّ الجزائري، والرئيس السابق للجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان في الجزائر (رسمية)، فاروق قسنطيني، إن "العنصرية في فرنسا تمارس على العرب والمسلمين والأفارقة بشكل عام بدون استثناء ومن قديم الزمان، وإنه بمجرد وصولك إلى هناك، ورؤيتهم جواز سفرك، تتطور الأمور، وتظهر العنصرية"، مبرزاً أنه "درس في فرنسا، وعاش فيها، ويعرفهم، وأن العنصرية شيء فوق طاقتهم، ولا يستطيعون للأسف التخلص منها على الإطلاق".

وأوضح قسنطيني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن "العنصرية في فرنسا تمارس بالفعل على جميع العرب والمسلمين والأفارقة، ولكن بالدرجة الأولى على الجزائريين، بسبب عامل التاريخ"، مبيِّناً أن "مواقف فرنسا معروفة وقديمة، إذ يرغب الفرنسيون -بحسبه- في التخلص نهائياً من الجالية الجزائرية، ويغتنمون كل الفرص وكل الأسباب للتقليل من عددها، وطرد أفرادها"، مؤكداً أن "هذا معروف وصريح، وأن أحزاب اليمين الفرنسي صرحت به، وقالت إن الجزائر تتحمل مسؤوليةً في حادث الطفل الذي مات، بينما الجزائر ليست لديها -وفق قسنطيني- أية مسؤولية في هذا الجانب". 


وتابع قسنطيني تصريحاته لـ"جسور بوست" قائلاً إن "فرنسا تذرعت في هذا الحادث بذريعة الدفاع الشرعي، في حين أن عناصره بحسب القانون الفرنسي غير متوفرة، وأننا أمام قتل عمد ثابت، وأنهم أرادوا قلب الصورة، ليتخلصوا من مسؤولية الشرطي الفرنسي الموجود في الحبس الاحتياطي، والذي توقع قسنطيني أنه سيتم الإفراج عنه قريباً، وأن القضية ستنتهي بحكم براءة، رغم أن القانون الفرنسي يشدد الشروط المتعلقة بالدفاع الشرعي، غير الموجود على الإطلاق، بحسب قسنطيني، في حادثة نائل".

وأكد قسنطيني أن "فرنسا بلد عنصري، وأن هذه هي المشكلة، وأنه بعد خسارة حزب مارين لوبان، "التجمع الوطني"، وحزب إريك زمور، "الاسترداد"، الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي أجريت في إبريل 2022، فإنهم ينتظرون انتخابات عام 2027 للعودة إلى الحكم، والتخلص والانتقام من الجزائريين".

وأبرز قسنطيني أن "99% من الفرنسيين لم ينسوا خروج فرنسا من الجزائر (عام 1962 بعد 132 سنة من الاستعمار)، ويعتبرون أن الجزائريين أخرجوهم من بلادهم، لأنهم يعتبرون -وفق المتحدث- أنهم كانوا قد كسبوا الجزائر بشكل نهائي"، مردفاً أن "هذه الفكرة اختلطت بدمهم، وأن بعض الصحافة الفرنسية تقول إن الجزائر لم تكن موجودة في التاريخ على الإطلاق، وإنها بدعة فرنسية، وبلاد فبركتها فرنسا".

خطأ ربط الشغب بالهجرة

ومن جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية في معهد العلوم السياسية بباريس، والمختص في الشؤون الأوروبية، كريستيان لوكين، إنه "من الخطأ الربط كثيراً بين أعمال الشغب والهجرة، وإنه صحيح أن بين هؤلاء الشباب المراهقين الذين خربوا توجد نسبة مهمة من الفرنسيين أبناء وأحفاد المهاجرين، لكن ليس هم فقط، وإن هناك -خصوصاً- شباباً يأتون من مدن هشة تماماً، مستواهم التعليمي منخفض، ومن عائلات مفككة تماماً، وإن الكثير منهم يعيشون مع الأم فقط، لأن الأب قد ترك المنزل، والأمهات متجاوَزات تماماً، وهو ما يفسر -بحسب لوكين- تمكن المراهقين من أن يكونوا في الشوارع في الساعة الـ11 مساءً".

كريستيان لوكين

وأردف لوكين، في حديث لـ"جسور بوست"، أن "المشكلة إلى حد كبير مشكلة فقر أكثر منها مشكلة هجرة، وخصوصاً لا علاقة لها بالإسلام، وأن الأولاد المخربين يسخرون تماماً من الدين"، مؤكداً أن "التفكك الاجتماعي للعائلات، حيث تكون الأم وحيدة والأب غائباً، هو ظاهرة أساسية".

وفي الوقت الذي ربط فيه سياسيون يمينيون فرنسيون بين أعمال الشغب، التي شهدتها فرنسا بعد مقتل نائل، والمهاجرين، ومن بينهم زعيم حزب "الاسترداد"، إريك زمور، كشف وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين، أمام مجلس الشيوخ الفرنسي، أن أقل من 10% فقط من 4 آلاف موقوف خلال المظاهرات كانوا أجانب، بينما 90% هم فرنسيون. 

وتعليقاً على الأصوات التي تقول إن فرنسا "لا تقوم بإدماج حقيقي للمهاجرين العرب والمسلمين والأفارقة، وتتعامل معهم بسياسة التهميش، والعنصرية، والاستعلاء، وغياب العدالة الاجتماعية"، أوضح لوكين أنه "يعرف عشرات الشباب المنحدرين من أصول مهاجرة، ولا سيما من المغرب العربي، نجحوا بشكل جيد في حياتهم بفرنسا، وأنهم إذا كانوا يأتون في كثير من الأحيان من عائلات متواضعة، فإن هذه العائلات قامت بتعليمهم، وأنه ليس لدى الأطفال في جميع العائلات المهاجرة الحق في الخروج في المساء، وألا يفعلوا شيئاً في المدرسة"، مبرزاً أنه "يجد هذه التصريحات مهينة جداًّ للعديد من العائلات المهاجرة، التي تريد فقط العيش بشكل طبيعي في فرنسا".

وبيَّن لوكين أن "المشكلة تتمثل في النقاش السياسي، الذي يحتكره اليمين المتطرف واليسار المتطرف، إذ يقولون لك في أقصى اليمين إن جميع المهاجرين مخربون، وفي أقصى اليسار يقولون لك إن جميع المهاجرين ضحايا، وهذا -بحسب لوكين- خاطئ بالطبع".