هدم منائر العراق: من منارة العبد في كربلاء الى منارة السراجي في البصرة

"أرشيفية"

الرباط

يبدو أن أبناء حضارة وادي الرافدين هم اخر من يفكر بحضارة وتاريخ بلدهم، فهذا البلد الزاخر بالشواهد التاريخية، يفقد شيئاً فشيئاً ما تبقى من ارثه التاريخي إما بسبب الجهل او التخريب والارهاب او لاسباب طائفية وقومية او بحجة الحداثة.

فهدم منارة السراجي في مدينة البصرة اعادت الى الاذهان هدم منارة العبد في مدينة كربلاء في اواخر عام (1354 هـ / 1936 م)، حيث هدمت هذه المأذنة الأثرية بأمر من رئيس الوزراء العهد الملكي ياسين الهاشمي بحجة أنها مائلة للسقوط وتشكل خطراً، ولكن في الحقيقة يروي أهالي كربلاء، ان المنارة كان يتطاير منها الشرر حين تنزل فؤوس العمال لهدمها من شدة قوتها، و في نهاية عملية الهدم عثر العمال على نقود نحاسية قديمة ترجع الى العهد الجلائري والصفوي وقد أودعت في دار الآثار القديمة ببغداد، مما يثبت ان هذه المنارة كان عمرها مئات السنين، وتم هدمها دون النظر لتاريخها و رمزيتها!

وعلى عكس الدول التي تهتم بتاريخ مبانيها ومدنها القديمة، قامت السلطات العراقية بمختلف الازمنة على تهديم كل ما هو تاريخي بحجة التطوير او الادامة، مدينة بابل القديمة مثلاً، تم بناءها من جديد في زمن رئيس النظام السابق صدام حسين، لكن بناءها جعلها مجرد (مسخ) بسبب تلاعبه بآثار المدينة القديمة حتى وصل الأمر به بنقش اسمه على طابوق المدينة ليرضي غروره و نرجسيته.

كذلك الحال بعد سقوط النظام بعد 2003 ، تم هدم شواخص تاريخية ومدن قديمة كما الحال في كربلاء والنجف و سامراء بحجة توسعة المراقد الدينية، وسط تذمر الكثير من الاهالي الذين لم يرضوا بهدم مدنهم القديمة لما فيها من ذكريات شخصية و تاريخ .

قبل ايام، تم هدم منارة جامع السراجي الاثرية في مدينة البصرة في قضاء ابو الخصيب والتي بُنيت في عام 1140هـ/1727م، وتمتاز هذه المنارة بشكلها المعماري الفريد و القديم، وقد تم ترميمها عدة مرات رفقة الجامع الذي يضم هذه المنارة.

تفاجأ اهالي محافظة البصرة بهدم المنارة بهدف توسعة الطريق الذي يشهد ازدحامات مرورية، وظهر محافظ البصرة أسعد العيداني وهو يشرف على عملية هدم المنارة التاريخية قائلاً "البعض يقول إن هذا الجامع تاريخي ورفعوا أصواتهم، لكن عملية الإزالة تمت بالتنسيق مع الوقف السني، إذ إنه كان في منتصف الشارع، وبعد إزالة الأنقاض ستتم تسوية الأرض وبناء مسجد جديد من قبل المحافظة، فيما سيخدم الشارع كل الناس".

لكن رئيس الوقف السني في البصرة محمد عبدالوهاب الملا، قال أن الوقف السني و اهالي البصرة تفاجأوا من طريقة هدم منارة الجامع، لافتاً إلى أن هذه الطريقة لم يتم الاتفاق عليها، بل إن ما تم الاتفاق عليه هو تجزئتها وترقيمها ونقلها إلى مكان آخر وفقاً لاقتراح تقدمت به الهيئة العامة للآثار والتراث".

وتسببت حادثة الهدم بحالة من الجدل في أوساط المجتمع العراقي بين مؤيد بدعوى أن المنارة كانت ( تعيق طريق المسلمين )، وبين معارض رآها معول هدم جديد لمعلم تاريخي قديم في البصرة، وسط حالة من الفوضى بادارة ملف الاثار في العراق والإهمال الذي يراه البعض متعمداً في هذا الجانب، بدءاً منذ اهمال ملف جفاف الاهوار التي دخلت ضمن قائمة التراث العالمي في اليونسكو، وصمت الدولة العراقية على وضعها المزري، و انتهاءاً بقضية منارة جامع السراجي!

وكانت اقوى ردود الأفعال من العلامة احمد الكبيسي، حيث وجّه الكبيسي رسالته في بادئ الأمر إلى محافظ البصرة وقال: "أهكذا بلغت بك الجرأة على بيوت الله وكأنه ليس هناك حائط مائل تستعرض عضلاتك عليه سوى مسجد السراجي في البصرة؟ هذا المسجد الأثري الذي له رمزية كبيرة في نفوس البصريين والعراقيين جميعًا. لن تجد يوم راحة".

وإلى رئيس الوقف السني قال الكبيسي: "اذهب واجلس في بيتك. يكفيك عارًا أن المسجد هدم وأنت رئيس للوقف السني".

وكانت رسالة الكبيسي الاخيرة، لرئيس الوزراء محمد السوداني، حيث قال: "ما شاء الله على حكمك الرشيد. مأذنة عمرها 3 قرون تهدم وأنت رئيس للوزراء. حسبي الله ونعم الوكيل دعاء عليكم لا ينقطع إلى يوم الدين".

وبذلك سُدل الستار على معلم تاريخي  في البصرة والعراق، كان من الممكن تلافي تهديمه بأي طريقةً كانت، عبر تحويل مسار الشارع  كما قال ذلك بعض البصريون من سكان المدينة، وذلك أفضل من انهاء جزء مهم من تاريخ البصرة ليلتحق هذا الجزء من تاريخها بقافلة الشواهد والشواخص التاريخية الراحلة بسبب الاهمال والحروب والجهل!