في "كهولة" القيادة الأميركية وزعزعة آحادية قوّتها العالمية كقطب حاكم

"أرشيفية"

موسكو

ليس وضع الإدارة الأميركية خيرًا من وضع إدارة منظومة الحُكم القبائلي-الطائفي في لبنان. ولا مبالغة في الأوصاف الحادّة التي تُطلق على "معضلة الجيرونتوقراطية" في الولايات المتحدة، أي "مأزق أن تحتكم دولة أميركا لمجموعة هرمة أو من كبار السن".

وكما تحوّل "فجر الجرود" إلى "فجر القرود" في لبنان على لسان الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون (89 سنة) في تسميته دورة لضبًاط الجيش اللبناني تكريما للعملية العسكرية التي نفذها ضد تنظيم داعش على الحدود الشرقية… انتشرت في الآونة الأخيرة عدة تقارير مُصوّرة، ولقطات وثّقتها كاميرات الإعلام الأميركي، لهفوات الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي احتفل بعيد ميلاده الثمانين في نوفمبر/تشرين الثاني، ليصبح أول ثمانيني يشغل المكتب البيضاوي، والرئيس الأكبر سنًا في التاريخ الأميركي الذي "استراح" ما يقرب من 40 بالمئة من إجمالي الوقت الذي قضاه على رأس عمله رئيسا للولايات المتحدة بحيث أن أيام الإجازات التي قضاها وهو في منصبه قد بلغت 360 يومًا حتى شهر آب/أغسطس الحالي..

بايدن الذي، ظهر مرتبكًا بعد حديث ألقاه في بيتسبرغ حيث لم يتمكّن من إيجاد طريقه للنزول عن المنبر، وفي حادثة أخرى تاه بعد مشاركته في حملة لغرس الأشجار في حديقة البيت الأبيض  وسأل حرّاسه أين الطريق للعودة إلى البيت... ناهيك عن زلّات لسانه المتكررة وخلطه بين أسماء الدول والأحداث (خلط بين اسم سويسرا والسويد... ووقع في إساءة دبلوماسية حين ضاع بين قارّتين فحلّت كولومبيا محلّ كمبوديا في قمّة آسيان)، ونسيانه الأسماء، وظهوره في كثير من الأحيان مُصافحًا الهواء أو متعثّرًا في خطواته يكاد يسقط.

كبار السن يكتسحون المشهد

يهيمن كبار السّن على المشهد السياسي الأميركي ومن منا لم يشاهد بأم العين كيف تجمد زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل (الجمهوري - كنتاكي) البالغ من العمر 81 عامًا لمدة 20 ثانية محرجة خلال مؤتمر صحفي… ,في وقت سابق من هذا العام، لم يتمكن مكونيل من سماع الصحفيين خلال مؤتمر صحفي. وقد سقط على الأقل ثلاث مرات في العام الماضي: انزلق على الجليد قبل اجتماع في فنلندا، سقط عندما كان ينزل من طائرة في مطار ريغان الوطني في واشنطن. وأدى سقوطه الثالث في فندق والدورف أستوريا في واشنطن إلى إصابته بكدمة في الدماغ وكسور في الأضلاع أبقته على الهامش لعدة أسابيع.

كان ماكونيل عضوًا في مجلس الشيوخ منذ عام 1985، مما يجعله السيناتور الذي يحتل المرتبة 12 في قائمة أطول السيناتورز خدمة على الإطلاق. والطريف أنه لم يعلن بعد ما إذا كان سيترشح لإعادة الانتخاب في عام 2026. السيناتور الآخر الذي خدم لفترة أطول هو السيناتور تشارلز غراسلي، الذي يبلغ من العمر 89 عامًا والذي فاز بولاية ثامنة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وبعد أقل من 24 ساعة من حادثة تجمّد مكونيل، ظهر مقطع فيديو آخر للسيناتور ديان فينشتاين (الديمقراطية - كاليفورنيا)، البالغة من العمر 90 عامًا، وهي تبدو مشوشة عندما طُلِب منها التصويت في لجنة… وقد بدى ارتباكها واضحًا خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ عندما كان من المفترض أن تصوت السيدة الكاليفورنية على مشروع قانون الدفاع، حيث كان من المطلوب منها أن تقول ببساطة "نعم" أو "لا" عندما تسمع اسمها.

إلا أنها لم تُجب، فحثها أحد زملائها مرارًا وتكرارًا على التصويت، وما كان منها إلا أن بدأت عوضًا عن ذلك في قراءة ملاحظات معدة لدعم التشريع. ‌

وللإنصاف، قدمت فينشتاين مسيرة مهنية رائدة، فهي أول من أسقط حواجز النوع الاجتماعي من سان فرانسيسكو (حيث كانت أول امرأة تشغل منصب عمدة للمدينة) إلى الكابيتول (حيث تم انتخابها لغرفة يهيمن على حُكمها الذكور في عام 1992). ولكن صحتها العقلية والبدنية قد تراجعت  بشكل كبير اليوم، مما أدى إلى غيابها في كثير من الأحيان عن التصويت، بما في ذلك التصويت على تأكيدات قضائية حاسمة.

أما وقد سمحت القواعد غير الرسمية المعهودة في إدارة الحكم، بتسليح الشخصيات العامة بكتيبة من المساعدين، الذين يديرون تقريبا كل جوانب حياتهم المهنية والشخصية، استطاعت العديد من الشخصيات السياسية الأميركية أن تطيل من عمر سيادتها على المناصب. تشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية، يبلغ من العمر 72 عامًا. السيناتور بيرني ساندرز، الذي يمثل رمز اليسار في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية في السنوات الأخيرة، يبلغ من العمر 81 عامًا.

وفيما تفرض"الكهولة" نفسها كأحد أهم التحديات التي تواجه حكومات هذا القرن سواء في البلدان المتقدمة أم النامية، استقال باتريك ليهي، الديمقراطي من فيرمونت، البالغ من العمر 82 عامًا،  بعد 48 عامًا في مجلس الشيوخ. كما تنحى أعلى ثلاث قادة ديمقراطيين في مجلس النواب: نانسي بيلوسي، البالغة من العمر 82 عامًا، ستيني هوير، البالغ من العمر 83 عامًا، وجيم كلايبورن، البالغ من العمر 82 عامًا… للسماح لجيل جديد من السياسيين بالظهور، مثل حكيم جيفريز، البالغ من العمر 52 عامًا، كاثرين كلارك، البالغة من العمر 59 عامًا، وبيتر أغيلار، البالغ من العمر 43 عامًا، بالإضافة إلى ماكسويل فروست، البالغ من العمر الآن 26 عامًا، والذي تم الترحيب به كأول عضو في الكونغرس من جيل زد. ‌

موقف الاميركيين من ترشيح بايدن

وقد أظهر استطلاع CNBC للرأي الاقتصادي لكل الأمريكيين في ديسمبر/كانون الأول أن 70% من الأمريكيين لا يرغبون في أن يترشح بايدن للانتخابات مرة أخرى، معتبرين سنه هو السبب الرئيسي خلف رفضهم إعادة انتخابه. ‌

من بين جميع الكونغرسات منذ عام 1789، يُعدّ الكونغرس الحالي ثاني أقدم مجلس شيوخ (متوسط العمر 63.9) وثالث أقدم مجلس نواب الشعب (متوسط العمر 57.9). يقول النقاد إن نقص المواهب يجعله غير متناسب مع الجمهور الأمريكي، الذي يبلغ متوسط عمره 38 عامًا. ما يترك هوّة جيليّة كبيرة بين المجتمع وأعضاء الكونغرس الذين هم غالبًا ما يعجزون عن مواكبة التغيير التكنولوجي السريع وتداعياته على المجتمع مثلًا.

الفارق بين طرح الأسئلة المشروعة حول صحة سياسي ما، وبين ترسيخ قاعدة "التمييز على أساس العمر" ضمن قانون، يكاد يكون بمقدار شعرة.

وهو ما حاولت أن تطرحه الحاكمة السابقة لولاية جنوب كارولاينا، نيكي هيلي، عندما اقترحت اختبارًا للكفاءة العقلية للسياسيين الذين تزيد أعمارهم عن 75 عامًا. والذي اعتبر تمييزًا بناءً على العمر، وشُكك في دستوريته.

إلا أن أميركا اليوم باتت تعكس صورة "الرجل المُسنّ" لا صورة بلاد تحقيق الأحلام العُظمى. وهو ما يضع الإدارة الأميركية في وضعية الدفاع الدائم، فيما تحوّل رئيس الولايات المتحدة مادة للسخرية اليومية على القنوات والمواقع الإخبارية الروسية خاصة، يليها الأوروبية والإفريقية والعربية على حد سواء وكأن "لعثمة الرئيس وتجمّد السيناتور، من لعثمة وتجمّد البلاد"....

والرحم الأميركي عقيم عن إنتاج سلطة شابة بينما يتألق قيصر شاب على عرش روسيا. وهنا السؤال الأصعب: هل تخسر أميركا آحادية حكمها العالمي، لصالح أقطاب أخرى بسبب الكهولة؟ أم أن في ذلك بعض من المبالغة؟!