دار الإفتاء في مصر ترفع التحريم عن الاختلاط بين الجنسين

تحاول دار الإفتاء المصرية نسف الفتاوى المغلوطة أو تلك التي يروّجها السلفيون والمتشددون بإصدار فتاوى مضادة تستند على النص الشرعي مع مراعاة تطور العصر، كما حدث في آخر فتوى تخص الاختلاط بين الجنسين والتي أثارت حفيظة التيارات الدينية المتشددة، بينما رأى نقاد ومختصون في علم الاجتماع أنها خطوة تستحق الدعم للنأي بالمجتمع المصري عن التطرف الفكري.

اختلاط ترفضه شريحة واسعة من المجتمع المنغلق

القاهرة

ألقت موافقة دار الإفتاء في مصر على الاختلاط بين الجنسين والتحدث إلى بعضهما والجلوس قبل الخطبة بحجر ثقيل في بركة تحريم أيّ علاقة بين الرجال والنساء، حيث أفتت بأنه لا مانع شرعا من وجود اختلاط بين الشباب والفتيات والتعارف وتبادل أطراف الحديث لعبور خط أحمر.

وأقرت دار الإفتاء، ردا على سؤال من طلاب في الجامعات، بأن “مخالطة الرجال للنساء والحديث معهن مشروع من حيث أصله، ولا مانع شرعا من كلام الرجل مع المرأة بغرض التعرف عليها متى تمت مراعاة القيود والضوابط، بغض البصر عن المنهيات الشرعية، وألا يحصل بينهما خلوة محرمة”.

ومثّلت الفتوى لدى شريحة من المصريين جرأة للمؤسسة الرسمية بأنها تساند عدم عزل الرجال عن النساء وترفض تبرير الاختلاط لأسباب جنسية، باعتبار أن العرف الأسري الذي توارثته الأجيال يتعامل مع العلاقة بين الذكور والإناث بفكر متشدد، ولا يجب وجود اختلاط قبل وجود علاقة رسمية، مثل الخطبة أو الزواج.

ولم تسلم دار الإفتاء من اتهامات بالعلمنة والدعوة إلى تحريض الشبان والفتيات على الانفتاح وحرية العلاقة بينهما، لكنها التزمت الصمت مكتفية بالرأي الشرعي الذي حسم قضية عدم الاختلاط دينيا، وأسكتت الأصوات التي خاضت معارك في سبيل مساندة العزل بين الجنسين بدعوى أن غير ذلك قد يقود إلى كوارث اجتماعية جراء إمكانية وقوع علاقات محرمة.

ويتعامل المجتمع المصري المعروف عن شرائح كبيرة فيه التزامها الديني مع الاختلاط بين الجنسين، باعتباره دخيلا على الإسلام لأن الأغلبية نشأت على أن العلاقة بين الرجال والنساء يحددها إطار عام تحكمه العادات والتقاليد والأعراف ونمط التربية الصارم، وفتاوى تراثية تحرّم التقارب وتبادل أطراف الحديث.

ويصعب فصل الصدمة المجتمعية من رفع التحريم الديني عن الاختلاط بين الجنسين عن اتخاذ دار الإفتاء مسارا مغايرا لشكل العلاقة بين الشبان والفتيات عن ذلك الطريق الذي رسمه دعاة التطرف وأغلبهم يصدرون فتاوى تحظر كل أشكال الاختلاط في المطاعم والمقاهي والجامعات والمدارس بذريعة الحفاظ على أخلاق المجتمع.

علاقات طبيعية أم مشبوهة

مع كل واقعة تحرش أو مضايقات تحدث لطالبات داخل مدارس أو جامعات يشن المنتمون إلى الطبقة المحافظة هجوما على الحكومة لمطالبتها بعزل الجنسين عن بعضهما داخل المؤسسات التعليمية، محذرين أن وجودهما معا أو الاحتكاك بينهما يمهد الطريق إلى وقائع غير أخلاقية، دون اكتراث بأن العُزلة تكرّس الكبت الجنسي.

وصحيح أن حسم قضية الاختلاط بشكل رسمي ومعلن بأنه ليس محرما ولا شيء فيه يتعارض مع الشرع جاء متأخرا وربما محاولة من دار الإفتاء لتكريس تحررها وتحضرها وعدم تشددها، لكن المعضلة تكمن في الميراث المجتمعي حول مفهوم الاختلاط الذي رسم صورة شهوانية عن علاقة الرجل بالمرأة، وكيف يمكن أن يكون تقاربهما مدخلا لعلاقات مشبوهة.

وأسهم المفهوم الديني الخاطئ لشكل العلاقة بين الجنسين في زيادة حساسية المجتمع تجاه أيّ صوت فقهي يدعو إلى إزالة الحواجز بين الرجال والنساء لنشر ثقافة المساواة ودعم المشاركة بين الطرفين دون اختزال الأمر في النواحي الجنسية، لكن ذلك يتعارض مع إرث مجتمعي وثقافة أسرية نشأت على نصوص فقهية عاصرتها أجيال متعاقبة مفادها أن المرأة خلقت للمتعة، وأيّ تقارب معها يكون لذات الغرض ليس أكثر.

إيمان إبراهيم، وهي فتاة قاهرية جامعية تنتمي لأسرة متدينة، لا تتفاءل كثيرا بموقف دار الإفتاء الذي حسم شكل العلاقة بين الرجل والمرأة ولم تمنع التقارب بينهما، فهي تعتقد أن الفتاوى الشاذة تأثيرها على المجتمع أقوى من تلك التي تصدر عن جهة رسمية باعتبار أن شيوخ المساجد والسلفيين يختلطون بالناس أكثر من رجال المؤسسات الدينية الذين يميلون إلى الوسطية والانفتاح.

وقالت الفتاة لـ”العرب” إن رجال الدين المتشددين جعلوا عقول القاعدة العريضة من الناس تحت سيطرتهم، وهي في حد ذاتها عانت كثيرا من جانب والدها وأخواتها وتهديدها بعدم التحدث مع أيّ شاب داخل الجامعة أو في مكان عام، وترهيبها بترك التعليم والجلوس في المنزل إلى حين الزواج بحجة أن التحدث للرجال يخالف تعاليم الإسلام.

وينتمي والد إيمان لفئة محدودي التعليم والثقافة، ويميل لاستفتاء شيوخ المساجد، لذلك من الصعب أن يغيّر قناعاته تجاه الحظر الديني المفروض على التقارب بين الجنسين قبل وجود علاقة رسمية بعدما أصبح أسيرا لفتاوى يصدرها أئمة يتعاملون مع جسد المرأة كأداة جنسية أو من السهل التغرير بها بعلاقة عاطفية تقودها إلى المحرمات.

ويرى أغلب الرافضين للعزلة الاجتماعية بين الرجال والنساء أن موقف دار الإفتاء لا يمكن أن ينجح بشكل جذري في تغيير قناعات المجتمع تجاه مفهوم الاختلاط دون أن يصل هذا الرأي إلى عموم الناس ويتم تقديمه فقهيا بشكل بسيط وسهل، وبناء على مبرّرات دينية عقلانية تتشارك فيها المؤسسات الدينية، لا جهة الفتوى وحدها.

ومن الصعب أن يدخل الأزهر على خط المواجهة مع أصحاب الفكر المتشدد الذين يدعمون تحريم الاختلاط، لأن المعاهد والكليات الأزهرية تطبق منع وجود الإناث مع الذكور في مكان واحد بزعم أن ذلك يتناغم مع صحيح الدين والنصوص الشرعية، وهو ما يعرقل جهود دار الإفتاء.

وأصبحت جهة الفتوى في مصر تركز على جمهور منصات التواصل الاجتماعي بشكل أكبر، لا الشريحة الأمية التي تميل إلى الفتاوى العشوائية وقاطني المناطق الريفية والشعبية التي لا تمتلك فيها المرأة الحق في الاعتراض على التحكم في شؤونها ورسم مسار علاقاتها بالآخرين، بحكم العرف والأفكار حول حتمية التزامها بالتقليد الأسري.

ويقترح مؤيدون لموقف دار الإفتاء في مواجهة الانغلاق الفكري للأزهر والسلفيين تخصيص خطبة الجمعة في جميع المساجد حول إباحة الاختلاط بين الجنسين والتعريف بالتعاليم الإسلامية الصحيحة عن العلاقة بين الرجل والمرأة ليصل هذا الصوت إلى فئة كبيرة من الناس، مع الطعن في كل الحجج والادعاءات التي يسوّق لها دعاة مهووسون بالجنس وتفنيدها بشكل عقلاني مبسط.

جمهور المنصات أولا

إذا كان هذا المقترح أكثر واقعية وتأثيرا من الفتوى الإلكترونية فقد يكون من الصعب تطبيقه لأن عقلية المجتمع المحافظ لن تتقبل تداول قضية الاختلاط بين الجنسين على منابر المساجد، فالناس اعتادوا مناقشة هذه المسائل بشكل سري أو بتحفظ، ما يتطلب إرادة لمواجهة تحريم التقارب بين الرجل والمرأة بالمزيد من جرأة المؤسسات الدينية.

ويعتقد سامح عيد الباحث المتخصص في شؤون جماعات الإسلام السياسي أن فتوى إباحة الاختلاط لم تكن لتظهر علانية إلا بوجود منسوب واضح من النضج الفكري والثقافي عند الأجيال الجديدة التي ترفض كل أنواع الوصاية الدينية والمجتمعية، لكن لا يجب أن يكون الانفتاح قائما على فتوى أو رأي فقهي، ويجب أن يكون المجتمع حرا في شكل العلاقة مع الآخر من دون رؤى دينية.

وأكد لـ”العرب” أن اختزال العلاقة بين الجنسين في النواحي الجسدية صنيعة السلفيين، وهناك فئات تتماهى مع هذا المعتقد الخاطئ وتخترع لنفسها نصوصا لتأكيد وجهة نظرها، وثمة الكثير من الفتاوى التي تعج بها منصات التواصل والمواقع الإسلامية لا تجد من يقف في وجهها ويفنّدها بعقلانية وبناء على براهين وحجج مقبولة مجتمعيا، لكن يظل موقف دار الإفتاء بداية لمواجهة التابوه المجتمعي.

تطهير العقل الجمعي

يشير خبراء في علم الاجتماع إلى أن تطهير العقل الجمعي من الفكر الشهواني في علاقة الرجل بالمرأة يتطلب المزيد من التوعية الثقافية والفكرية والإعلامية والدينية بأن الاختلاط حرية شخصية وغير محكوم بإطار شرعي، على الرجل أو المرأة، وهذه مسألة تحتاج إلى جهد وتنوير بشكل مكثف، فالمعيار ليس فتوى تزول بانتهاء مناقشة المجتمع للقضية نفسها لكن باستمرارية المواجهة لفصل الاختلاط عن الدين.

وأشار جمال فرويز استشاري الطب النفسي والخبير في العلاقات الاجتماعية بالقاهرة إلى أن السلفيين ومن على شاكلتهم يصنفون الاختلاط محرما من منظور جنسي، وبات المجتمع يؤمن بأنه إذا اجتمع رجل وامرأة كان الشيطان ثالثهما، وهذا إرث ثقيل يتطلب من المؤسسات الدينية جهدا مضاعفا لمواجهته وإقناع المجتمع بأنها عندما ترفع التحريم عن الاختلاط فإنها تدعو لعلاقة قائمة على النظرة الآدمية، لا الشهوانية.

ولفت إلى أن تدخل دار الإفتاء لمعالجة الفكر المشوّه لشكل التقارب بين الجنسين يجعل المجتمع يعيد التفكير في القضية من منظور عصري بعيدا عن التمسك بآراء وقناعات جاهلية، خاصة إذا كان الرأي الديني الرسمي يمثل صدمة للأغلبية ويضرب المعتقد المتوارث منذ عقود طويلة ولم تتم مواجهته خشية الدخول في معركة مع الفئة المحافظة، ومن غير المعقول التعامل مع المجتمع بالمنع وتصبح الفتوى حلا أمنيا.

وأوضح لـ”العرب” أن المجتمع في حاجة إلى أن يفكر في وجود علاقة بين الرجل والمرأة بعيدا عن المتعة، فالتغيرات وطبيعة الوظائف والاحتكاك داخل الحقل التعليمي تفرض وجود علاقة قائمة على التشارك والمعاملة الحسنة والمودة وتبادل الرؤى والأفكار، وفهم كل طرف لطبيعة الآخر، بما ينعكس بشكل إيجابي على التماسك المجتمعي والأسري، لأن العلاقة السوية بين الجنسين تنطلق من إزالة الحواجز بينهما.

فالمهم أن يفهم الناس أن تبرئة الشرع من تحريم الاختلاط لا تعني أن دار الإفتاء تبيح المحظورات، بل تسعى ليفكر الناس بعقلانية بعيدا عن قدسية التراث، وتظل الأزمة في الفئات التي تفكر في جسد المرأة لا عقلها وشخصيتها وأنها أمينة على نفسها وليست ناقصة عقل، وبالتالي يجب أن يكون الحل الأمثل في التركيز على النشء والأجيال الصاعدة بحيث يتم تعريفهم بأن العلاقة بين الجنسين إنسانية بحتة.

ومن الضروري إقناع المجتمع بأن احترام الرجل للمرأة والعكس، ينطلق من فهم مشترك، ولن يحدث ذلك إلا بإزالة الحواجز النفسية بينهما، فالمنع لا يصنع أخلاقيات ولا يربّي على الفضيلة بل يزيد المشكلة تعثرا، ويولّد الكبت الذي يغذي الانفجار، كما أن إصلاح العقل تجاه خصوصية العلاقة بين الجنسين لن تتحقق برجال دين متشددين لا يفرّقون بين العلاقة الحميمة والشهوانية ويتعاملون مع الاختلاط بمنظور جنسي.