صحيفة: النزاعات المسلحة في أفريقيا أعقد بكثير مما تصوره بعض النظريات السائدة
يسعى باحثون وخبراء أفارقة إلى تطوير آليات تعالج أزمات القارة الأفريقية من منطلق محلي يبرز النهج الأفريقي في مساعي تحقيق السلم وفض النزاعات، بدل الترويج لمنظور غربي نمطي أهمل نقاطا أساسية.
صورتان ثابتتان متناقضتان هيمنتا على المفهوم العام إن لم يكن العالمي عن أفريقيا. أولاهما صورة أفريقيا التي يحفها الخطر ويلفها الغموض وتتمثل في الحروب الضارية المتصلة والنزاعات المسلحة الدامية والاضطراب السياسي الدائم والأزمات الاقتصادية الخانقة والمجاعات والأمراض والفقر، وكلها ترمز إلى القارة البائسة وإلى المأزق الأفريقي. والصورة الأخرى رحلات الصيد البرية وصورة أفريقيا في السينما الأميركية، وهي صورة ظهرت مع نشأة السياحة وتنامي شهرة رحلات الصيد البرية في هذه القارة. الصورتان المتناقضتان لأفريقيا استعملتا في صوغ التصور العام عن هذه القارة وفي ترسيخه، بل في تعميق الرؤية العالمية السائدة عن القارة البائسة وحالة العجز الكلي.
انطلاقا من كون هذه الصور وغيرها تعطي تصورا غير صحيح عن مجريات الأمور في أفريقيا خاصة عن مفهوم السلم الذي ظل ولا يزال مفهوما محيرا طوال معظم تاريخ أفريقيا بعد الحقبة الاستعمارية، حيث ثبت أن السلم والتنمية أصعب وأعقد في تحقيقهما مما تنبأ به المتفائلون الأفارقة، يأتي هذا كتاب “أفريقيا السلم والنزاع” الذي أعده وقدم له ديفيد ج. فرانسيس مدير دراسات السلم والنزاع في أفريقيا باليونسكو، وترجمه عبدالوهاب علوب وشارك فيه باحثون غربيون وأفارقة متخصصون في الشأن الأفريقي، هم: تيم موريثي، خواو غوميس بورتو، نانا بوكو، طوني كاريو، جاني مالان، بيلاشيو جبريوولد، محمد صالح، جيم ويتمان، محاولة لتقديم تفسير راديكالي لدراسات السلم والنزاع في أفريقيا.
ويمثل الكتاب الصادر عن المركز القومي للترجمة الذي يقع في سبعة فصول في بابين إسهاما مهما بطرحه النقدي للمسائل الفكرية والقضايا النظرية لمبحث السلم والنزاع في أفريقيا من منظور أفريقي متميز يدفع إلى تفكيك لغات الخطاب والتفسيرات السائدة، وإلى إبراز المفهوم والنهج الأفريقي الذي طال إهماله للسلم وفض النزاعات.
ويرى فرانسيس أن مؤشرات الاضطراب السياسي وعدم استقرار الحكم تعتبر محبطة. فطبقا لترتيب مؤشر صندوق الدول التي تفتقر إلى السلم لعام 2007، نجد أن ثماني دول من بين الدول العشر الأكثر اضطرابا سياسيا في العالم توجد في أفريقيا. وعلى مؤشر الفساد الدولي لعام 2007
تأتي سبع دول أفريقية ضمن عشرين دولة هي الأكثر فسادا في العالم، ويحتل الصومال مرتبة ثانية كأكثر الدول فسادا في العالم. إلا أن مؤشري الفساد والفشل الحكومي كلاهما مشكوك فيه لأسباب عدة. فمؤشر الفشل الحكومي خاصة يستعين بثلاثة مؤشرات عامة (اجتماعي واقتصادي وسياسي) في تحديد مستوى الاضطراب أو سبب الفشل الحكومي، مع الأخذ في الاعتبار أن المؤشرات المفترضة غالبا ما يشوبها التحايل السياسي والنزوع نحو الهيمنة. في السودان، مثلا، أزمة دارفور لا تقارن بالفوضى والوحشية السائدتين في العراق وأفغانستان. ومع ذلك فهذان البلدان يأتيان في المرتبتين الثانية (العراق) والثامنة (أفغانستان) على مؤشر الفشل الحكومي.
ويلفت إلى إن الحروب والنزاعات المسلحة هي التي تسيطر على صورة أفريقيا وعلى تغطيتها الإعلامية، وذلك بسبب العنف السياسي وتكرار الحروب والنزاعات المسلحة وكثرتها. وحسب قاعدة بيانات جامعة أوبسالا، شهدت أفريقيا حروبا وصراعات مسلحة أكثر مما شهدت أي منطقة أخرى في العالم. وفي مسح للصراعات حسب المناطق بين 1946 و2006 سجلت أفريقيا أعلى رقم في الصراعات (74) مقارنة بآسيا (68) والشرق الأوسط (32) وأوروبا (32) والأميركتين (26). وبناء على هذا المسح شهدت الفترة من 1990 إلى 2002 تصاعدا في الحروب والنزاعات المسلحة في أفريقيا.
ويشير فرانسيس إلى أن كل هذه المؤشرات وغيرها الخاصة بالاقتصاد والتنمية والسياسة والفساد عن أفريقيا ليس بينها إلا قاسم مشترك واحد هو الميل إلى تصوير القارة كمكان متخلف دائم الخطر ويستحيل حكمه، وهو ما يدعم صورة الإعلام الدولي السائدة عن أفريقيا في العديد من جوانبها. كما أن هذه المؤشرات تخفق في بيان المسار المتضارب من تغيير الاتجاه والتقدم والذي ميز القارة منذ مطلع القرن العشرين. وعلى عكس معظم بيانات الصراع الخاصة بأفريقيا، فالحقيقة أن العنف والحروب والنزاعات المسلحة في انخفاض. ولم يكن هناك بين عامي 2000 و2002 سوى خمس حروب وصراعات مسلحة نشطة. ومن فبراير 2008 لم يكن هناك سوى خمس حروب وصراعات مسلحة نشطة في القارة: السودان (منطقة دارفور)، كينيا (عنف ما بعد الانتخابات بين ديسمبر وفبراير 2008)، والصومال (باستثناء صوماليلاند)، الكونغو الديمقراطية (المنطقة الشرقية) وتشاد. ويشهد هذا الانخفاض في الحروب والنزاعات المسلحة على مدى وكثافة المشاركة الأفريقية والدولية في الدبلوماسية الوقائية وإدارة النزاعات وحفظ السلم.
ويتساءل فرانسيس “هل أفريقيا قضية خاسرة؟”، ويؤكد أن السلم في أفريقيا وتحدياتها الأمنية وبغض النظر عن كونها قارة بائسة ومجرد حالة ميؤوس منها أصبح يمثل هما عالميا واهتماما دوليا متجددا بالقارة، وهو ما تبدى في الحرب على الإرهاب، وفي التكالب الرأسمالي الضاري الجديد (الصين والغرب) على موارد الطاقة (النفط والغاز) في أفريقيا. هذا التركيز الدولي غير المسبوق على أفريقيا بدأ فعليا في عام 2005 بتشكيل توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “لجنة أفريقيا” كجزء من مبادرة رئاسة الاتحاد الأوروبي وقمة الثماني لوضع أفريقيا على قمة جدول الأعمال الدولي، تلتها مبادرات بمعونات تجارية كبيرة وحملات لجمع التبرعات وتسابق مشاهير هوليوود لتبني أطفال أفارقة، إلى درجة أن بعض المعلقين في وسائل الإعلام يلمحون حاليا إلى “حمى أفريقيا”.
ويشير تيم موريثي الباحث في مركز التعاون والأمن الدوليين بجامعة برادفورد في دراسته إلى أن الجهود الدولية المدفوعة خارجيا لفض النزاعات في أفريقيا غالبا ما تواجه عقبة تتمثل في أن الأطراف المحلية تكون أحيانا معارضة أو عاجزة عن المشاركة في مثل هذه المبادرات. وتتجه الدبلوماسية عالية المستوى الرسمية إلى التركيز على دفع الحوار بين الأطراف المتحاربة على افتراض أنها الممثل الشرعي للشعب. وهو افتراض قد يتبين خطأه. ولا بد لجلسات إقرار السلم أن تشتمل في الأساس على أطراف محلية حتى يكون لها أساس في واقعهم وبالتالي تعالج مظالمهم. وتساعدنا المقاربات المحلية وذاتية المنشأ للسلم وفض النزاعات في أفريقيا على معرفة مدى إمكانية القيام بعمليات أشمل وأكثر تأثيرا على المجتمع. فالأعراف المحلية وذاتية المنشأ تتمتع بتجارب قيمة قد تساعد على إعادة بناء الثقة الاجتماعية وتهيئة الظروف للتعايش الاجتماعي.
ويؤكد موريثي أنه لا بد من الاعتراف بأن الأعراف المحلية قادرة على تحقيق التراضي وتسهيل الاحتواء واستيعاب المعايير القضائية التي يقرها المجتمع ويحترمها. وبما أن الأعراف المحلية تعتمد على معايير التراث التي تطورت عبر قرون، فإن القيم والمبادئ التي تعتنقها يمكن استيعابها بسهولة من قبل الجماعات التي تعمل فيها. وإذا كانت ثمة قيود على تطبيق الإستراتيجيات المحلية لإقرار المصالحة والسلم وعلى رأسها الميل إلى الإقصاء القائم على الهوية الجنسية، فإن هناك قيما تقدمية يمكن إدراكها لدعم أعراف حل النزاعات. لذا، فإن هذه القيم والمبادئ التقدمية يجب توثيقها بدرجة أكبر والاستعانة بها في حل النزاعات في المستقبل.
ويلفت آيزاك أ. ألبرت أستاذ ومدير معهد الدراسات الأفريقية بجامعة إيبادان بنيجيريا في دراسته إلى أن النزاعات تمثل تهديدا جسيما للتنمية في أفريقيا نظرا إلى ما تؤدي إليه من خسائر في الأرواح ودمار للممتلكات وتشريد للناس وعبر الحدود الدولية في بعض الحالات وتبديد للموارد المخصصة لدفع التنمية المستدامة على شراء الأسلحة وتمويل عمليات دعم السلم المكلفة. وهناك كثير مما نشر عن هذه النزاعات وجهود حلها. وتعتمد الكثير من الكتابات النهج التنازلي المتمركز حول الدولة والعولمة في الخطاب. وتم إنتاج هذه الكتابات في سياق السلم الدولي والأمن والتعاون في نهاية الحرب الباردة، وبالتالي فهي تركز بصورة حصرية على الطريقة التي يحقق بها أعضاء المجتمع الدولي السلم ويحفظونه في القارة. وتحوي هذه الكتابات إشارات متفرقة إلى قضايا تتعلّق بالآليات التقليدية لفض النزاعات. والبحوث العلمية ليست وحدها التي تتحمل اللوم في هذا الصدد. فاللوم يقع أيضا على الهيئات الأهلية المحلية والدولية ومؤسسات التوجيه العالمية والمجتمع الدولي وهيئات التنمية التعاونية الدولية الناشطة بالقارة. فالأنساق غربية المنحى لإدارة النزاعات والمفروضة على شعوب أفريقيا غالبا ما توضع في إطار المشروع الليبرالي للسلم، وهذا المشروع الذي يعمل على النهوض بالعدل الجزائي/ العقابي يهدف إلى حماية مصالح الهيمنة الاقتصادية الغربية في أفريقيا. وهذا النهج التنازلي يخفي ما يمكن للأنساق التقليدية لإدارة النزاعات في أفريقيا أن تسهم به في ضمان السلم، بل تعمل على استمرار النزاع في بعض الحالات.
ويؤكد كينث س. أوميجه مدير دراسات السلم والنزاع في أفريقيا بجامعة برادفورد أن النزاعات الأفريقية جزء من التحديات التي تواجه بناء الدول، ونظرا إلى محدودية تاريخ الدول المستقلة في أفريقيا فإن تحويلها من دول تابعة أنشأها المستعمرون للغزو إلى دول تطورية تتمحور حول الشعوب ليس بالمهمة اليسيرة. وكان يمكن للتاريخ والتحول أن يكونا أيسر كثيرا في العديد من الدول. ومن المهم هنا أن ندرك أن بناء الدولة تطور عبر القرون في أوروبا، في حين أن مشروع وستفاليا للحكم الاعتباري (في مقابل الحكم الفعلي) الذي فرض في أفريقيا عند الاستقلال لم يمض عليه سوى ستة عقود ونشأ في ظل مناخ دولي مختلف تماما. وأسهمت قوى العولمة المعاصرة والإشراف والحكم الاستعماري الذي يحدد المناخ الدولي الذي تعمل فيه الدول بعد الاستعمارية في الاعتلال السياسي والاقتصادي لهذه الدول الأقل حظا وبطرق شتى. ومن النقاط الأخرى ذات الصلة أن معظم الحروب والنزاعات المسلحة المعاصرة في أفريقيا أعقد بكثير مما تصوره بعض النظريات السائدة نظرا إلى الطبيعة متعددة الأسباب والأبعاد والمتشابكة لهذه النزاعات. فتشير ماري كالدور إلى أن الحروب الأفريقية بعد الحرب الباردة بمسمى “الحروب الجديدة” التي تتسم بالغموض في التمييز بين الحروب التقليدية والجريمة المنظمة وانتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع، أو على حد تعبير روبرت كالدور “الفوضى الإجرامية”.
ويكشف نانا ك. بوكو أستاذ كرسي الدراسات الأفريقية بالمركز الأفريقي لدراسات السلم والنزاع أن سياق الأمن في أفريقيا متشابك وبؤرة معقدة مع ترسيخ دعائم الدولة. فهو مأزق حقيقي، فعدم استقرار الدولة أدى إلى نزاعات لا تساعد إلا على زيادة عوامل التخلف والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بما يؤدي إلى المزيد من النزاع. فأين يمكن كسر هذه الدائرة؟ كانت الإجابة في ما مضى يتم البحث عنها على مستوى المجتمع الدولي. ولكن يلاحظ في التعليقات أن المجتمع الدولي أصبح أقل اهتماما بالحل بينما زاد اهتمامه بمشكلات الأمن في أفريقيا. وهناك دلائل على التحول في المنظور نحو نهج يركز على الناس وتجسد في البنى والهيئات الناشئة في الإطار المؤسسي للاتحاد الأفريقي وفي مبادرات المجتمع المدني وفي خطاب دوائر المثقفين الأفارقة. إلا أن التحديات التي تواجه أفريقيا جنوب الصحراء في الإجماع على دعم الأمن التنموي البشري الراهن لا تزال كبيرة وتهدد بتبديد عملية التغيير الإيجابي. والوحدة الأفريقية بإعادة تعريفها بالمصطلح المعاصر تساعد على إحداث تغيير إيجابي، ويظل دور المجتمع الدولي شديد الأهمية وحتميا في توفير الدعم للمبادرات التي يطرحها الأفارقة والتي تلامس الاحتياجات التنموية التي تواجه الملايين من الأفارقة.
ويرى طوني كاربو أستاذ بمعهد القيادة والحكم السلمي بجامعة أفريقيا بزيمبابوي أن استمرار النزاع الداخلي الطويل وازدياد حالات البلدان الغارقة في دوامة العنف والحرب وفشل اتفاقيات السلم الكبرى في أفريقيا كلها مؤشرات إلى الأرض الزالقة التي يقف عليها بناء السلم. ومما يضاعف هذا التحدي أن الدول الأفريقية ممزقة في العادة أو في طريقها إلى الفشل أو فاشلة فعلا. وتعريف الدولة الفاشلة ببساطة هي الدولة التي تكون البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها متصدعة ومهمشة. ومعظم الدول الفاشلة أو التي في طريقها إلى الفشل في أفريقيا تمر بتدهور اقتصادي حاد وتفكك وقلاقل وفقدان شرعية الدولة وهروب واسع النطاق للبشر ولرؤوس الأموال وانعدام سيادة القانون وسوء بنى الإدارة وتدهور الخدمات العامة. وتأخذ الدولة في الانقسام على مستويات شتى منها العرقي والإقليمي واللغوي والسياسي، ومما يضاعف هذا الانقسام الفساد الحكومي الذي يبلغ معدلات عالية في بلدان ما بعد النزاع. وارتفاع معدلات الفساد ينفر الاستثمارات الخارجية والمحلية والمعونات التنموية الرسمية. وهذا هو الحال في غينيا بيساو وزيمبابوي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها.
ويلفت بيلاتشيو جبريوولد أستاذ العلاقات الدولية بمدرسة العلوم السياسية بالنمسا إلى أن اثنتي عشرة من الدول المتأزمة العشرين حسب مؤشر الدول الفاشلة في السياسة الخارجية لعام 2007 توجد في أفريقيا، وهو أمر ناجم عن عوامل شتى: الفساد وعسكرة السياسة والنزاعات بسبب الموارد في نيجيريا، تركز السلطة في الرئاسة والفساد في أنغولا، انهيار المؤسسات وضعف الأداء الاقتصادي في كوت ديفوار، والانهيار السياسي والاقتصادي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والنزاعات القائمة على التعريب والأسلمة في السودان، واللاديمقراطية في إريتريا وإثيوبيا بعد 1998، والشمولية في توغو والكاميرون وغينيا.. إلخ، وكلها حالات تتفاعل فيها النزاعات وسوء الحكم والمؤسسات اللاديمقراطية. وتتميز معظم دول أفريقيا بتفكك الدولة والقصور الإداري وزيادة الإنفاق والممارسات الإسرافية والسّفه في إنفاق المال العام وفشل العديد من المبادرات السياسة والاقتصادية الكبرى. كما يعدد “مؤشر الدول الفاشلة” بعض أسباب فشل الدول، فيرى المؤشر أن “المشكلات التي تصيب الدول المتداعية شديدة التشابه بصفة عامة: تفشي الفساد، النخب الناهبة التي تحتكر السلطة لمدد طويلة، غياب سيادة القانون، الانقسامات العرقية والدينية الحادة”. كما يقدم المؤشر (سواء عن عمد أو عن غير عمد) هذه الأمثلة وكأن الأسباب كلها داخلية. أما التنافس العالمي على الموارد كالنفط وتحويل الأسلحة والتحالف مع الحكومات غير الديمقراطية.. إلخ، فلا يولى أي اعتبار في تحليل أسباب فشل الدول.