القضاء المسيّس يشل عمل الدولة والإفلات من العقاب يتمدد!

"أرشيفية"
ليست المرة الأولى التي يعلن فيها قضاة لبنان الإضراب منذ بدء الأزمة الاقتصادية، إذ سبق أن اتخذوا قرارات "الاعتكاف القضائي الشامل" من دون استثناءات، العام الماضي.
على وقع الإنهيار الإقتصادي الذي لم يوفر قطاعاً من تداعياته في لبنان، يواصل بعض القضاة في لبنان إضرابهم المفتوح احتجاجاً على تدهور قيمة رواتبهم وسوء الخدمات في المحاكم، ما أبقى قضايا مصيرية وملفات موقوفين معلقة.
ويشكل إضراب القضاة دليلاً إضافيا على حالة الانهيار الكامل الذي تعيشه المؤسسات العامة في لبنان بعد أن بات الحصول على جواز سفر أو إنجاز معاملة في الدوائر العقارية أو في المحاكم يحتاج إلى معجزة.
كما أدى التدخل السياسي في القضاء في لبنان على مدى سنوات خلت إلى المزيد من التعطيل لسير العدالة وللعديد من التحقيقات في قضايا مهمة، من تفجير مرفأ بيروت الى ملفات الفساد والعنف وحتى في جرائم الإغتيال .
إنعدام ثقة
يمكن القول إن انعدام الثقة بالقضاء بات جلياً أكثر من أي وقت مضى، في الوقت الذي يطالب فيه اللبنانيون بمحاسبة السياسيين على الأزمات الكارثية التي نزلت بهم وليس فقط الإنهيار المالي لكن أيضاً في إنفجار آب العام 2020 في مرفأ بيروت الذي قتل المئات ودمر أجزاءً من العاصمة.
في هذا التحقيق نسلط الضوء على وضع القضاء في لبنان بعد الأزمة التي تعصف به، وعلى الجريمة التي بدأت تتمدد في البلاد بسبب الإفلات من العقاب وعلى موضوع القضاء المسيّس .
ارتفاع معدلات القتل والسرقة
يعاني اللبنانيون منذ نهاية عام 2019 من أزمة اقتصادية طاحنة، صنفها البنك الدولي من بين أسوأ ثلاث أزمات على مستوى العالم وأدت إلى انهيار مالي وتراجع كبير في القدرة الشرائية لمعظم المواطنين، والى ارتفاع في معدلات الفقر والبطالة.
ومما لا شك فيه أن تدهور الأوضاع الإقتصادية في لبنان بشكل كبير وواضح وغياب الرادع القضائي، أثر على الوضع الأمني، إذ أصبحت الشوارع والطرق مسارح للقتل والسرقات والسلب وتحولت البلاد إلى غابة يتناتش فيها الناس أبسط حقوقهم.
عن الأسباب الحقيقية لارتفاع معدل الجريمة في لبنان، يوضح الباحث الإجتماعي ممدوح حيدر لـ"جسور"أنه وللأسف الشديد أصبح النظام اللبناني يبحث عن ما يلهي به الشعب عن المشكلات التي يعيشها بعد كل هذا الانهيار الذي أوصله إليه ويرى أن ارتفاع نسبة الجريمة بين عامي 2019 و2022 يعود للإنهيار الاقتصادي الذي اقترفته أيدي من يشكلون النظام اللبناني".
ثقافة مجتمعية
ويقول المدير التنفيذي لملتقى التأثير المدني زياد الصائغ لـ"جسور" إن" الإفلات من العقاب ذهنية زرعتها ثقافة المافوق - دولة واستباحة القانون مع تشكيل شبكات محميات قائمة على الزبائنية والمافيوية، وترافق كل هذا مع عدم تحقيق العدالة الإنتقالية في لبنان بعد الحرب الأهلية، وبالتالي فقد تم إقفال كل الملفات دون مساءلة أو محاسبة" . ويتابع الصائغ: "بات الإفلات من العقاب ثقافة مجتمعية تستند الى الحق بممارسة كل أنواع الفساد حتى القتل الذي بات من دون رادع وتحول الى ثقافة ، وهذا أمر خطير يؤشر الى غياب الإنتماء الى منظومة قيم مشتركة ومصالح مشتركة ".
ويضيف:"أما الأخطر من ذلك فهو استناد مجموعات تحترف الجريمة المنظمة على هذه الثقافة لتوسيع أنشطتها المدمرة، كما أن ثقافة المساءلة والمحاسبة في مواجهة ثقافة الإفلات من العقاب تحتاج الى قضاء مستقل وصارم وقادر على إطلاق مسارات متكاملة في ملاحقة المعتدين على الدستور والانتظام العام والمال العام " .
ويتابع: " يقوم القضاء المستقل على قضاة يرتبطون بمناعة أخلاقية مالية ونزاهة وجرأة في اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام ويكمن بيت القصيد في المناعة الأخلاقية ".
ويختم الصائغ حديثه لـ"جسور"فيقول:" القضاء في لبنان قادر، إنما نحتاج الى انتفاضة أخلاقية، ومؤسف أن يكبل القضاة ويستهدفون إما ترهيباً أو ترغيباً، ويبقى قانون استقلالية القضاء ضمانة وضرورة غيرأنه لا يكفي وصون الحق والعدالة هو أساس المجتمع".
تطييف!
وتقول الوزيرة السابقة والقاضي السابق أليس شبطيني لـ"جسور"في الماضي كان الدخول الى السلك القضائي يواجهه صعوبات جمة،لم يكن المتقدم الى هذا السلك ليقبل قبل أن يتم التحقق بشكل دقيق لمعرفة ما إذا كان على علاقة بأحزاب أو مع سياسيين، فالقانون يمنع تعاطي القاضي مع السياسة وأهلها" أما " اليوم فبدأنا في عصر التطييف أي الإنتماء الى الطوائف، وهذا أكثر خطورة من التسييس خصوصاً أن لكل طائفة في لبنان سياسييها ".
طالما القضاء بخير البلد بخير
تضيف شبطيني متحسرة فتقول" طالما القضاء بخير البلد بخير إلا أنه من المؤسف أن لبنان والقضاء وكل المؤسسات لم تعد بخير"ودعت جميع القضاة في لبنان الى تحمل مسؤولياتهم خصوصاً في هذه الأزمة ، وبالتالي عدم الإعتكاف في منازلهم خصوصاً وأن الدولة قصرت مع جميع موظفيها وليس مع القضاة فحسب" وحذرت شبطيني من الوضع الحالي وقالت " إذا كان التسييس سيئاً على القضاء فالرشوة أكثر خطورة "وطالبت الدولة بالإهتمام بالقضاة لئلا نصل الى الأسوأ وإلى ما لا تحمد عقباه".
ملفات معلقة
ويرى الإعلامي المتخصص في الشؤون القضائية يوسف دياب أن "وضع القضاء كما كل مؤسسات الدولة اللبنانية، متداع ومنهك وتكبله التدخلات السياسية لأن الملفات والقضايا المهمة معلقة متل ملف انفجار مرفأ بيروت الذي يعد أخطر وأكبر انفجار غير نووي في تاريخ البشرية، والتحقيق فيه مجمد بإرادة سياسية وكذلك توقف التحقيق في ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بإرادة سياسية ".
ويتابع دياب في حديثه لـ"جسور":"ملفات الفساد التي من الممكن أن تطال بعض القيادات السياسية في البلد ممنوع فتحها، وتقتصر الأمور فقط على الدعاوى البسيطة التي تطال عامة الناس ومن لا سند لهم ولا حماية سياسية أو حزبية". ويردف:"القضاء على الضعيف فالقوي لا يخضع للقانون ، وهذا الوضع أساء بشكل كبير للقضاء اللبناني وحتى المراجع القضائية تعترف أن القضاء ليس بخير، وهو "مريض" بالمعنى المجازي للكلمة، والتدخلات السياسية أجبرت بعض القضاة على الاعتكاف والتوقف عن القيام بواجباتهم في إحقاق الحق وكذلك بسبب حرمانهم من التقديمات الإجتماعية والرعاية الطبية. "
ويضيف دياب " تفتقر قصور العدل الى المياه والتجهيزات والطاقة الكهربائية، والخطير في الأمر أن القضاء هو الملاذ الأخير للمواطن اللبناني، والوضع مأساوي وما وصل اليه القضاء كان بسبب الفشل في الأداء السياسي، والقرار السياسي عطل كل شي في لبنان " ويرى دياب أن "غياب القضاء انعكس تفلتاً أمنياً وسيطرة لشريعة الغاب، فالقوي يأخذ حقه بيده وليس بحاجة الى قانون والضعيف بدوره لا يستطيع الوصول الى حقه " ويختم دياب "ما يحصل حالياً هو من مظاهر تحلل مؤسسات الدولة بشكل كامل فالقضاء ينفذ القانون على الضعيف، ويمكن أن يلاحق كاتباً صحفياً مثلاً على مقال رأي كتبه على فيسبوك أو تويتر أو في وسيلة إعلامية، بينما لا يصدر أحكاماً في ملفات كبيرة وجرائم بحق المواطن والشعب ، ونتمنى أن يتعافى القضاء من محنته ".
قضاء غير مستقل
ويقول مدير مركز سيدرا للدراسات القانونية المحامي محمد صبلوح لـ"جسور" من المؤسف القول إن القضاء في لبنان غير مستقل، ونحن ننادي بإستقلاليته ولكن من دون جدوى ، رأينا في عهد الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون كيف تمت عرقلة التشكيلات القضائية لأن كتلته النيابية لم تكن موافقة عليها ".
ويضيف صبلوح:" القضاء في لبنان مسيس والقاضي يحاول كسب ود السياسي حتى يتولى المناصب الرفيعة" مشيراً إلى أن "معظم المسؤولين السياسيين يتدخلون في القضاء، ويتم التعاطي في الملفات القضائية بسياسة الكيل بمكيالين كما حصل في ملف تفجير مرفأ بيروت وهو جريمة العصر" .
ويتابع "رأينا كيف تدخل السياسيون لإيقاف مسار التحقيقات في الجريمة لغاية اليوم، أما في ملفات أخرى فقد قام بعض الأشخاص بالإعتداء على الجيش اللبناني ولم يتم توقيفهم لأنهم يحظون بالدعم من جهات سياسية نافذة، وتم تغريمهم بغرامات بسيطة، بينما يتم توقيف بعض المواطنين بسبب تغريدة على تويتر أو موقف على مواقع التواصل الإجتماعي والفيسبوك لأن ليس لهم من يقف خلفهم من السياسيين والمتنفذين"! .
كل ذلك يؤكد أن القضاء مسيس وأن الطرف القوي يتحكم بمفاصل الدولة ويقمع معارضيه ، وهذا ما رأيناه في العديد من الجرائم التي طمست وقائعها كجريمة قتل الناشط السياسي لقمان سليم التي لم يكشف فاعلها حتى اليوم قال صبلوح خاتماً حديثه:" لن تحل هذه الأزمة الا بضمان استقلالية القضاء ليحكم القاضي بضميره ومن دون تحكم السياسيين به ، وكذلك النظر بوضعية القضاة التي تؤخر عملية التقاضي وإحقاق الحق في المحاكم بسبب ضآلة رواتبهم بعد انهيار قيمة الليرة اللبنانية ، وهناك أكثر من 100 قاض اعتكفوا عن العمل حتى تحقيق مطالبهم في تغطية نفقات تعليم أبنائهم وكلفة الطبابة والاستشفاء " .