إصلاحات مصرية داخلية لن توقفها الحرب على غزة
الإحساس بالخطر على الأمن القومي بعد التصعيد في غزة جعل الناس تلتف حول حكم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي. ولا شك أن النظام سيسعى للاستفادة من ارتفاع منسوب الثقة به ويعمل على تعميم الهدوء في الجبهة الداخلية بالانفتاح أكبر على المعارضة، وخاصة بتحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين.
استعاد النظام المصري جزءا كبيرا من شعبيته مع شعور مواطنين بخطورة التداعيات الأمنية التي يمكن أن تخلفها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وصمتت الكثير من الأصوات المعارضة التي اعتادت على توجيه انتقادات للأداء العام للحكومة في ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها. وبدت هذه النتيجة مريحة للرئيس عبدالفتاح السيسي الذي يميل إلى العمل في هدوء ويريد تنفيذ مشروعاته بلا ضجيج، فهل يستثمرها في القيام بعملية إصلاحات شاملة تمنح الدولة مناعة داخلية قوية؟
حسب معلومات استقتها "العرب" من مصادر مصرية رفيعة، يعتزم الرئيس السيسي القيام بعملية تغيير كبيرة في اليوم التالي لإعلان نتيجة انتخابات الرئاسة في ديسمبر المقبل، والتي يخوضها أيضا عدد من المرشحين لا يمثل أحدهم منافسا شرسا له، ويشمل التغيير المنتظر مناحي عدة في الهياكل الرئيسية للدولة، بدءا من رئاسة الحكومة والوزراء وحتى مؤسسات وهيئات تنفيذية مهمة.
وأكدت المصادر ذاتها أن قرار التغيير الواسع ليست له علاقة مباشرة بحرب غزة، فقد اتخذ منذ فترة لأن مصر في حاجة إليه، وهناك يقين بأنه من الواجب تجديد دمائها وزيادة الاستعانة بالكفاءات بعد أن أصابت البيروقراطية عصب جهات حكومية بالشلل، وباتت النتائج السلبية التي حدثت خلال السنوات الماضية تحتاج إلى تصويب في مسارات الجهاز الإداري للدولة.
وربما تكون الحرب على غزة كشفت بعض العورات المتعلقة بالتركيز على النواحي الداخلية أكثر من الخارجية، فشريحة كبيرة من المواطنين انحصرت مطالبها في سد احتياجاتها المعيشية، بينما تواجه الدولة تحديات على جميع الجبهات الحدودية، مع ليبيا والسودان وإسرائيل وغزة في فلسطين، ويصعب التعامل معها بالدعاية التقليدية للنظام، حيث تفرض درجة عالية من الوعي بالطبيعة العسكرية التي تحيط بها وآفاقها.
استوعب مصريون روافد الأزمة الليبية والحرب في السودان، لكنهم انزعجوا كثيرا منها في حالة غزة، لأن مصر لن تستطيع البقاء بعيدة عن هذه الحرب أو بإمكانها اختيار أهداف انتقائية أو رفاهية وترك آخرين وحدهم يتلاعبون بمصيرها، فما يجري للقضية الفلسطينية قد تصبح تأثيراته قوية على الأمن القومي، ويستلزم التعامل معه باستعدادات وترتيبات في الداخل والخارج.
وأعاد تدقيق المصريين لما يجري مع غزة ثقتهم بتوجهات النظام المصري الذي التفت مبكرا إلى سيناء وشرع في تغيير طبيعتها الطبوغرافية، وعليه أن يستفيد من هذه الثقة في تحقيق جانب من رغبات المواطنين الخاصة بتخفيف المعاناة عن كاهلهم وليس زيادتها عبر توظيف دعمهم أو صمتهم، فالأجواء الراهنة تمنح النظام قدرة أعلى لتدشين قرارات مؤجلة، بينما النظرة البعيدة تستدعي تصحيح الأخطاء السابقة.
وسواء قصرت الحرب على غزة أم طالت مدتها، فإن الدولة المصرية تحتاج إلى عملية جراحية لمراجعة ما تم تحقيقه على عدد من الأصعدة، فكما تحققت نجاحات أمنية داخلية وامتلكت القاهرة قدرات عسكرية تدعمها في مواجهة التهديدات، يمكنها تكرار النجاح سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا وثقافيا، إذا سارعت السلطات بتبني إجراءات للنهضة تتوافق حولها الغالبية العظمى من المصريين.
وعلى النظام الحاكم الاستفادة من دروس الصبر المصري خلال السنوات الماضية وعدم التمادي في الاعتماد على هذه الصفة طويلا، فالحرب التي تدور على بعد خطوات من الحدود عززت مكانة المؤسسة العسكرية المصرية في الوجدان العام وأكدت أن الجيش هو حائط محوري للتصدي لأيّ تهديدات مفصلية، ولا توجد خلافات حقيقية معه عقب تشعب أنشطته، فقط ضبط أدواره على الجبهة الداخلية.
ويخشى البعض من المصريين أن تؤدي عملية الإصلاحات المتوقعة إلى زيادة القبضة الأمنية، خوفا من استغلال الانشغال أو الانخراط في ما يحدث مع غزة من قبل جماعة الإخوان في إرباك النظام المصري، غير أن هذا التقدير مردود عليه بأن القاهرة لم تترك لحظة الفرصة للجماعة لتوظيف الأحداث الداخلية لصالحها، وما تعرضت له من تقويض يصعب أن يمكنها من التحكم في زمام الأمور في الشارع المصري.
وأيقن النظام الحاكم من خلال بروفة الحوار الوطني التي استمرت نحو عام أن المعارضة جزء مهم في نسيج الدولة، ويمكن توظيفها بالصورة التي تقوّيه بدلا من تصور أنها تسعى إلى إضعافه، وأثبتت حرب غزة أن تكاتف الجبهة الداخلية خلف الدولة من السمات المركزية لدعم قوتها في حالتي الحرب والهدوء. ومن المهم فتح قنوات متعددة تستوعب القوى المصرية الحية والمتباينة في دعم توجهات النظام المصري نحو القيام بإصلاحات واسعة طال انتظارها.
ولن تكون الحرب والصراعات والنزاعات والتهديدات الإقليمية عائقا أمام هذه الخطوة، وقد تكون على العكس دافعا رئيسيا لها، لأن الأوضاع التي تمر بها المنطقة مرشحة لغليان وتغيرات كبيرة، وسواء تقلص دور المقاومة أو تزايد، فمصر من الدول التي تؤثر وتتأثر بالتوترات والتحولات التي تجري في المنطقة وبإمكانها التعامل معها في الحالين بما يستحق من استعدادات، أبرزها ترتيب الأوراق الداخلية.
وتحتاج التحديات إلى مستوى مرتفع من تماسك الجبهة الداخلية، ولن يتحقق ذلك في ظل التضيق على المجال العام والتحكم في جزء كبير من الثروة من قبل فئات محدودة، فأول خطوات الإصلاح تأتي من فتح نوافذ الحريات وأبوابها، وإتاحة الفرصة لشركات القطاع الخاص للعمل في أجواء مواتية، وهما زاويتان مهمتان للمستثمر الأجنبي باعتبارهما من المؤشرات الصحية لمناخ الاستثمار.
ووصل النظام المصري إلى قناعة بأهمية تعميم الهدوء في الجبهة الداخلية بتحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، والذي قد يطول انتظاره، وتمديد خيوط الأمل على مستويات مختلفة، في مقدمتها السياسة التي تمثل رافدا حيويا للدولة في الفترة الراهنة، ولن يتمكن الرئيس السيسي من الحصول على المزيد من الدعم وهناك طبقة تتململ من فقدان الأمل الذي يمكن الحصول عليه عبر خطوات إصلاح متعددة.
وتساعد الإصلاحات المتوقعة في توسيع قاعدة النظام المصري، وتؤكد أن الجمهورية الجديدة التي أعلن عنها أو بشّرت بها وسائل الإعلام الحكومية حقيقة وليست شعارات تدغدغ مشاعر الناس، أو مرتبطة بفوز السيسي بفترة رئاسية جديدة، فالتغيير في المنهج الذي تسير عليه البلاد هو السبيل العملي لتأكيد وجود رؤية تتغير وفقا لتحرك المعطيات على الأرض، بما يتواءم مع حجم المخاطر التي تواجهها الدولة.
وتشير ملامح التغيير التي كشفت عنها المصادر الرفيعة لـ”العرب” إلى أنها تتجاوز في محتواها تبديل شخص بآخر، فالطريقة التي سوف تتم بها لا تتوقف عند أسماء معينة، بقدر ما تتوقف عند المنهج الذي يفكرون ويتعاملون به، وهي الزاوية التي تجعل للتغيير طعما ومعنى مختلفين هذه المرة عن المرات السابقة.