الرئيس المصري يرسم إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح دون مفاوضات حل الدولتين
استثمر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الارتياح الدولي، الذي أوجده سريان الهدنة بين إسرائيل وحركة حماس، في طرح رؤية تعتمد على تأييد دولة فلسطينية منزوعة السلاح، دون مفاوضات حل الدولتين.
ورفع سريان الهدنة أمس الجمعة أحد الضغوط الكبيرة عن الدولة المصرية؛ إذ خشيت أن يتحول مخطط تهجير سكان قطاع غزة باتجاه سيناء إلى أمر واقع مع ظهور ملامح لتوجه العمليات العسكرية نحو منطقة الجنوب القريبة من حدود مصر، وهو ما سيدفع مئات الآلاف من المواطنين إلى التوجه نحو سيناء قسرا. وقال الرئيس المصري الجمعة إن الدولة الفلسطينية المستقبلية يمكن أن تكون منزوعة السلاح مع وجود قوات أمن دولية مؤقتة لتحقيق الأمن لها ولإسرائيل.
وقال السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك بالقاهرة مع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز ورئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو “قلنا إن إحنا مستعدين تبقى هذه الدولة منزوعة السلاح وأيضا في ضمانات بقوات سواء هذه القوات من الناتو أو قوات من الأمم المتحدة أو قوات عربية أو أميركية زي ما أنتم عايزين حتى نحقق الأمن لكلا الدولتين، الدولة الفلسطينية الوليدة والدولة الإسرائيلية (قلنا إننا مستعدون لأن تبقى هذه الدولة {الفلسطينية الوليدة} منزوعة السلاح وأيضا في كنف ضمانات قوات، سواء كانت هذه القوات من حلف شمال الأطلسي {الناتو} أو من الأمم المتحدة أو قوات عربية أو أميركية، حسب ما ترونه مناسبا، حتى نحقق الأمن لكلا الدولتين، الدولة الفلسطينية الوليدة والدولة الإسرائيلية)”.
وأضاف السيسي أن الحل السياسي الذي يقضي بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية مازال بعيد المنال. وجاء طرح السيسي الجديد – القديم عقب محادثات جرت مؤخرا بعد اندلاع الحرب بين مسؤولين مصريين وأميركيين وأوروبيين كتوجه يمكن أن يضع حدا لجولات الصراع خلال جولات تفاوضية منذ سنوات بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ولا يُعرف ما إذا كان اقتراح السيسي جزءا من النقاشات التي تمت لتحديد مصير غزة ما بعد تفكيك حماس أم هو مبادرة من القاهرة لفتح الأعين على حل عملي لسلام يقطع الطريق مجددا على فكرة التوطين في سيناء. كما أن الرئيس المصري لم يشر إلى موقف إسرائيل، وما إذا كان يمكن إعلان دولة دون المرور بمفاوضات حل الدولتين.
ويلفت مراقبون إلى وجود عقبات كبيرة في طريق تنفيذ حل الدولة منزوعة السلاح، في مقدمتها مصير سلاح المقاومة، فحركتا حماس والجهاد تسوّقان للهدنة على أنها انتصار لهما، ومن الصعب أن يتم حرمانهما من الأداة التي حققت لهما مكاسب عديدة، وهي إشكالية تستوجب حلا يأتي عبر توافق فلسطيني لا يمكن حدوثه في ظل انقسام الفصائل.
ويقول المراقبون إن دولة منزوعة السلاح تحتاج إلى عملية سياسية شاملة تأخذ بعين الاعتبار رسم حدود الدولة، وما إذا كانت ستقام على حدود الرابع من يونيو 1967، وما يرافق ذلك من محددات بشأن الموقف من القدس الشرقية كعاصمة لفلسطين، والأراضي التي تتخلى عنها إسرائيل بعد أن أغرقت الضفة الغربية بالمستوطنات.
وهناك سلسلة طويلة من العقبات تمت مناقشتها في جولات تفاوضية جرت خلال السنوات الماضية ولم يتم التوصل إلى حل لها بسبب تعنت إسرائيل التي قبلت باتفاق أوسلو الذي خرجت من رحمه سلطة ضعيفة واجهت عراقيل أفقدتها جدواها.
وتسعى القاهرة إلى توظيف الهدنة، وما يرافقها من زخم حول القضية الفلسطينية أوجدته الحرب، في لفت نظر المجتمع الدولي إلى ضرورة إيجاد حل للقضية إذا أرادت إسرائيل أن تنعم بقدر من الأمن والاستقرار في المنطقة -وبات هذا التوجه واضحا في خطاب مصر الرسمي- والاستفادة من استعداد دول أوروبية للتحرك على هذا المسار.
والجمعة طالب الرئيس السيسي خلال اجتماعه مع رئيسيْ وزراء إسبانيا وبلجيكا في القاهرة المجتمع الدولي بـ”الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإدخالها الأمم المتحدة”، مشيرا إلى أن “إحياء مسار حل الدولتين فكرة استنفدت” ولا بد من “الاعتراف بالدولة الفلسطينية”. وقام رئيسا وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز وبلجيكا ألكسندر دي كرو بزيارة إلى القاهرة، تزامنت مع دخول الهدنة الإنسانية حيز التنفيذ، وتخللتها مباحثات معمقة مع السيسي.
وتستضيف إسبانيا الرئاسة نصف السنوية لمجلس الاتحاد الأوروبي حاليا، كما ستتولى بلجيكا الرئاسة في النصف الأول من يناير المقبل، ودعت إسبانيا في وقت سابق إلى عقد مؤتمر سلام خاص بالقضية الفلسطينية، وجد ترحيبا من بعض الدول الغربية.
وزار القاهرة من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتس، وظهر نوع من التغير النسبي في الخطاب الغربي انتقل من التبني المطلق لما روجت له وسائل إعلام غربية بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس بلا حدود إلى الدعوة لوقف إطلاق النار، والحديث عن حل سياسي للقضية الفلسطينية.
وتسعى القاهرة نحو بلورة موقف مصري ـ أوروبي ـ عربي مشترك يؤدي إلى وقف نهائي للحرب والحفاظ على أسس وثوابت القضية الفلسطينية، وقطع الطريق على أي مخططات مستقبلا لتفريغ قطاع غزة من سكانه وترحيلهم إلى سيناء أو غيرها.
وظهر الرئيس السيسي الذي رفض بشكل صارم قبول التوطين في سيناء مرتاحا لاتفاق هدنة شاركت في إنجازه بلاده بالتعاون مع كل من قطر والولايات المتحدة، وتجلى الارتياح في تصريحات إيجابية أدلى بها يومي الخميس والجمعة.
وكشفت مصادر مصرية لـ”العرب” أن شبح نزوح أعداد كبيرة من سكان غزة إلى سيناء تراجع “مؤقتا” مع التوقيع على اتفاق الهدنة، لكن تجاوزه تماما يحتاج إلى تثبيت الهدنة وتحويلها إلى وقف طويل لإطلاق النار، والبحث بجدية عن حل بعيد المدى للقضية الفلسطينية.
وأكدت المصادر ذاتها أن هناك عوامل عديدة كبحت جماح تنفيذ سيناريو التوطين الذي بدأ الحديث عنه في إسرائيل يتخذ شكلا علنيا بعد تلميحات فقط سابقا، أبرزها صمود الشعب الفلسطيني وعدم انسياقه للضغوط التي تريده أن يهْجر القطاع.
وأضافت المصادر المصرية أن وقوف القاهرة بحزم أفشل ضغوط مورست عليها، وأسهمت استعدادات أمنية ولوجستية مبكرة بسيناء في سد المنافذ ومنع اختراق الحدود، ناهيك عن نشاط مصر ومحاولتها إقناع دول غربية برؤية القاهرة حتى بدت مقتنعة فعلا، وظهرت معالم ذلك في خطابات مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية بشأن رفض التهجير قسرا.
وأرادت القاهرة قلب الطاولة على مخطط التهجير من خلال تسهيل العودة العكسية لفلسطينيين عالقين بمصر إلى غزة بعد الإعلان عن سريان الهدنة، وبدأت عودة رمزية لأول مرة منذ بدء الهجمات الإسرائيلية في السابع من أكتوبر الماضي.
ويتوقف إجهاض القاهرة لمخطط توطين فلسطينيين في سيناء على وقف الحرب في أقرب وقت ممكن، وإنهاء العمليات العسكرية في قطاع غزة، وتهيئة الأجواء لإعادة إعماره، وترتيب أوضاع السلطة بعد الحرب ضمن حل شامل للقضية الفلسطينية. وتريد القيادة المصرية المضي قدما في هذا الطريق من خلال توسيع نطاق الاتصالات، إقليميا ودوليا، لتجنب عودة قريبة للحرب، والتوصل إلى حل يقلل من فرص تجدد الصراع وخروجه عن نطاقه الإسرائيلي – الفلسطيني.