الدبلوماسية التونسية تتمسك بمبدأ التعامل بندية مع الاتحاد الأوروبي
كرّست الدبلوماسية التونسية، خصوصا بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو 2021، مواقف وطنية خاصة بعيدة عن الوصاية الخارجية، ما يؤكد تعافي استقلالية القرار السياسي واحترام السيادة الوطنية في علاقة بالملفات الإقليمية، لعلّ أبرزها ملف الهجرة غير النظامية مع أوروبا.
أكّد وزير الخارجية التونسي نبيل عمار التزام بلاده بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي، مع رفض الاستفزاز والتعامل الفوقي، في خطوة تكشف حسب مراقبين تمسك الدبلوماسية التونسية بمبدأ التعامل بندية مع أوروبا، بعيدا عن الضغوطات وفرض الإملاءات.
وكثيرا ما تعبّر السلطات التونسية، خصوصا بعد إجراءات الرئيس قيس سعيد في الخامس والعشرين من يوليو 2021، عن كونها قادرة على إدارة شؤونها بمفردها ودون تدخلات خارجية، وهو ما يدعو إليه الرئيس سعيد مرارا ويرفض ما يسميه بـ”التدخل في السيادة الوطنية”.
وتطالب تونس ببناء روابط متكافئة بين ضفتي المتوسط لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية التي تتلكّأ أوروبا في معالجتها بجدية، وتدعو إلى دعم فرص التعاون في مجالات عديدة مثل الطاقة والتبادل التجاري.
وثمة نوع من الإجماع على تحسن مستوى الخطاب الدبلوماسي لتونس وعلاقاتها الخارجية في علاقة بملف الهجرة غير النظامية وما رافقه من جدل ومفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما جسدته مواقف الوزير نبيل عمّار.
وتقول أوساط سياسية وحقوقية إن موقف الخارجية التونسية يبعث برسالة إلى الاتحاد الأوروبي مفادها أن البلاد لا يمكنها تقديم المزيد من التنازلات في ظل أزماتها المالية والاقتصادية، فضلا عن كونه يطمئن الشعب بأن النشاط الدبلوماسي يبلور سياسة الرئيس سعيد ويتناغم مع توجهاته.
وأكد نبيل عمار التزام تونس باتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وانتقد بشدة، في حوار له مع وكالة الأنباء الإسبانية نشرته الوزارة الخميس، ما اعتبره النزعة الفوقية للاتحاد الأوروبي ولأعضاء من البرلمان الأوروبي في التعامل مع تونس، مستنكرا محاولة ممارسة دور الرقابة والتقييم لتونس، ومشددا على أن تونس دولة ذات سيادة.
وأشار نبيل عمار إلى رفض تونس لزيارة وفد عن البرلمان الأوروبي، موضحا أنه يعرف هؤلاء النواب منذ أن كان سفيرا لتونس في بروكسل، و”تبين أن لهم مشكلة خاصة مع بلدنا وأن لديهم علاقات خاصة مع أحزاب المعارضة”.
وليست هذه المرة الأولى التي ينتقد فيها المسؤول التونسي التدخلات الأوروبية والغربية امتثالا لموقف الرئيس قيس سعيد الرافض لانتهاك السيادة الوطنية.
واتهم عمار الاتحاد الأوروبي بالشعور بعقدة التفوق وأنه يعتبر نفسه نموذجا يجب الاحتذاء به رغم أنه أقلية في العالم، داعيا إلى ضرورة تدعيم وتمتين العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والقطع مع نظرة الاستعلاء التي يتم التعامل بها مع تونس، وأضاف أن تونس ترفض هذه الطريقة في التعامل.
وبين أن موقف تونس جعل الاتحاد الأوروبي يعي ضرورة اعتماد الندية في التعامل والابتعاد عن الاستفزاز.
وفي يوليو الماضي وقّعت تونس والاتحاد الأوروبي اتفاق شراكة إستراتيجية يهدف إلى مكافحة الهجرة إثر لقاء الوفد الأوروبي المكوّن من رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ونظيرها الهولندي مارك روته مع الرئيس التونسي قيس سعيد.
وستحصل تونس على مساعدة مالية طويلة الأمد بقيمة 900 مليون يورو ومساعدة إضافية بقيمة 150 مليون يورو يتم ضخها “فورا” في الميزانية لكن الجانب التونسي انتقد عدم إيفاء الاتحاد الأوروبي بالتزاماته.
وأفاد الباحث في العلوم السياسية محمد العربي العياري أن “هناك تغييرا في المواقف الدبلوماسية قياسا بالحكومات السابقة، وهو تصعيد بالمعنى الإيجابي لدولة تريد أن تثبت أنها تحترم نفسها”.
وقال لـ”العرب”، “الاتحاد الأوروبي يتحدث عن إرسال مراقبين، وكأن تونس غير قادرة على إدارة شؤونها لوحدها، وهذا موقف طبيعي جدا، يثبت أن نبيل عمار أفضل شخص تم تعيينه على رأس الدبلوماسية، وهو رجل يجمع بين الأداء الدبلوماسي ومتشبع بالنشاط السياسي”.
واعتبر العياري أن “هذا الموقف يأتي بعد ماراثون من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وبيّن أن الاتحاد الأوروبي لا يملك التأثير الكافي لتغيير موقف صندوق النقد تجاه تونس، لذلك صعّدت الدبلوماسية التونسية من مستوى خطابها، فضلا عن الوضع الإقليمي والدولي المتغيّر والتناقضات القائمة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي”.
ويرى متابعون أن تونس أصبحت تسترجع تدريجيا سيادتها الوطنية في صناعة القرار الداخلي، حيث يكرّر الرئيس سعيّد مرارا ضرورة “احترام السيادة الوطنية وأنه لا وصاية لأحد على تونس”، وذلك بعد سنوات من الارتهان الخارجي كرّسته منظومة الأحزاب والولاءات السياسية للتمكّن من السلطة.
ويؤكد هؤلاء على وجود توجه لتجسيد مواقف خاصة وليس بالوصاية، وهو ما يؤكد استقلالية القرار السياسي واحترام السيادة الوطنية.
وقال مصطفى عبدالكبير رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان “موقف نبيل عمار يأتي في سياق التوجه التونسي وخيارات الرئيس سعيد بأنه لا بد من التعامل مع الملف بجدية، مع ضرورة الحفاظ على الندية ويرفض أن تكون هناك معاملة فوقية”.
وأكّد لـ”العرب” أن “الاتحاد الأوروبي كان يفضّل أن تكون تونس منصّة لتجميع المهاجرين من خلال التوطين وبناء المخيمات في عدة مناطق، لكن تونس استطاعت أن تفرض قرارها السيادي وعرفت كيف تتعامل مع الملف”.
واعتبر أن “موقف عمار يحمل رسالة إلى الاتحاد الأوروبي مفادها أننا لسنا مستعدين لتقديم تنازلات على حساب وضعنا المحلي، ورسالة أخرى إلى الداخل تفيد بأن الدبلوماسية التونسية تطبق السياسة التي يتبناها الرئيس سعيّد”.
ولفت مصطفى عبدالكبير إلى أن “مختلف الوزارات تلعب دورا في معالجة ظاهرة الهجرة، فبالإضافة إلى موقف وزارة الخارجية، تتصدى وزارة الداخلية لعدة عمليات هجرة غير نظامية وأبرزها التصدي لـ57 عملية هجرة في 48 ساعة”.
ولئن ثمنت شخصيات سياسية الخطاب الدبلوماسي المطالب باحترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون المحلية أو فرض الإملاءات في علاقة بملف الهجرة الشائك والمعقّد، فإنها اعتبرت أن الملف يعالج على نطاق إقليمي وقاري أوسع، عبر إشراك مختلف الأطراف، وأبرزها دول الجوار (ليبيا والجزائر)، ودول الانطلاق في أفريقيا جنوب الصحراء.
وقال الناشط السياسي، حاتم المليكي “الدبلوماسية بين الدول، هي طريقة لحماية المصالح، ولا توجد شروط تفرض بالقوة، وتونس لديها السيادة الكاملة على قراراتها”، لافتا إلى أن “الإطار الحقيقي في التعامل مع ملف الهجرة يكون بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي”.
وأكّد لـ”العرب” أنه “كان بالإمكان التنسيق مع ليبيا والجزائر في الملف في ظل أزمة أوضاع المهاجرين وتدهور الأوضاع السياسية في ليبيا”.