كان خارج أي تصنيف فهو أكثر من شاعر وأكبر من ناقد شغوف بالسينما

دمشق تودع بندر عبد الحميد

بندر عبد الحميد

دمشق

رسالة من ثلاث كلمات لـبندر عبد الحميد كافية ليلج الغريب إلى أدفأ مكان في دمشق؛ العنوان الذي طالما لاذ به اللاجئون من المثقفين العرب في بحثهم عن ملاذ آمن، فينعمون فيه بحنان عاصمة عربية، لا تقل قسوة عن أخواتها العربيات، إذ تضيق على التعبير.

يقول أحد أصدقائه: «إن ما من مثقف فرّ من بلاده، وقصد دمشق أيام كانت أبوابها مفتوحة لكل العرب، إلا نزل في شقة بندر عبد الحميد، ليلقى رعاية واهتمام أهله».

الكرم البدوي الأصيل ونبالة الفرسان حملها بندر إلى دمشق من قريته تل صفوك، حيث ولد عام 1947، التي تبعد عن الحسكة حوالى 20 كيلومتراً، ليزرعها في شقته الصغيرة بإحدى تفرعات شارع العابد بحي الصالحية وسط دمشق، وتمكن بما عرف عنه من ودّ واحترام للجميع بدون استثناء من تحويل هذه الشقة البسيطة المتواضعة إلى قصر ثقافي منيف يؤمه المثقفون بدمشق أصدقاء وغرباء، يتنادمون حول مائدته المستديرة المبتهجة بطبخاته المبتكرة، حتى الريبة، فمنها ينطلق الحوار، ليصل إلى جدل ثقافي محتدم، أو حتى دون أن يفسد ذلك في العلاقة بندر عبد الحميد قضية. لأن بندر عبد الحميد كان خارج أي تصنيف إذ «يؤمن بحريته قبل كل شيء، وينغمس في صناعته لتلك الحرية التي يتمنى أن ينالها الجميع». فهو أكثر من شاعر وأكبر من ناقد شغوف بالسينما والفن. بندر عبد الحميد اسم علم للإنسان الحقيقي، صديق الجميع، الذي إن صدفته في سوق الخضار في الشعلان قريباً من بيته، أو عند فرن المناقيش، أو في أي نقطة تصل بين الأماكن التي يرتادها وسط المدينة: المؤسسة العامة للسينما، مقهى الروضة، دار المدى (التي عمل فيها فترة طويلة قبل اندلاع الحرب)، ستجده حاملاً وردة يتيمة أخذها من محل زهور على طريقه، يسارع لمنحك إياها مع دعوة إلى زيارته: «لماذا لا تمر... الكل يأتون»، وعندما يقول إن الكل يأتون فهو لا يعرف من سيكون حاضراً في بيته في تلك الساعات الفاصلة بين انتهاء عمله وموعد خلوده إلى منزل الأسرة مساءً.

خلال سنوات الحرب التسع الماضية، رحل غالبية الأصدقاء الذين كانوا يؤمون بيته والحياة الثقافية بدمشق، لكنه آثر البقاء تاركاً باب شقته مفتوحاً لمن بقي، فيما ثابر هو على التزام صمته الأنيق، حتى دوى نبأ رحيله، وكأن صمت الجسد فجر كل الكلام. المفاجأة فجعت كل من عرفه، إذ غيب الموت وجهاً نقياً آخر من وجوه دمشق تلك التي تخفيها في خزائن العطر.

تعلم بندر عبد الحميد في طفولته القراءة والكتابة على يد شقيقه، لأن أقرب مدرسة إلى قريته تل صفوك بريف الحسكة، تبعد حوالي 20 كيلومتراً، التي ارتادها لاحقاً، وكان يمضي 3 ساعات سيراً على الأقدام يومياً ذهاباً وإياباً إلى أن التحق بمدرسة العشائر الداخلية بالحسكة لدى تنقل أهله بين سهل سنجار في الربيع، وتل براك في الشتاء، قريباً من الحدود مع العراق، حيث كانت تسكن عائلته في بيوت شَعر لترعى أغنامها. في مدرسة العشائر نجح بتفوق، وانتقل منها إلى مدرسة» الغسانية» في الحسكة، حيث استأجر غرفة فيها ليستقل عن عائلته، في مكتبة المدرسة اكتشف ولعه بالقراءة كعمل جاد، بعد نيله الشهادة الثانوية بتفوق انتسب إلى كلية الآداب بجامعة دمشق لدراسة اللغة العربية. وفي دمشق تعرف على حياة أخرى أكثر اتساعاً من تلك التي عاشها في مدينة الحسكة، أخذته الحياة الثقافية بدمشق وأجواء الشعراء والكتاب، وراح يكتب الشعر الكلاسيكي، ثم انتقل إلى الشعر الحديث، إلى جانب عمله في الصحافة الثقافية، التي هيأت له مكاناً مرموقاً في عالم المثقفين بدمشق، ليصدر عام 1974 أول مجموعة شعرية «كالغزالة... كصوت الماء والريح»، التي كتب معظم قصائدها في كركون الشيخ حسن الذي اعتقل فيه لأشهر على خلفية الاشتباه بموقفه السياسي.

في الثمانينات عاد بندر إلى الحسكة، وأمضى عدة شهور في قرى ريفها البعيد قريباً من الحدود مع تركيا، ليعيش هناك تجربة نادرة، سيعيد تذكر تفاصيلها مع زواره في ليالي الحرب المظلمة والظالمة، متحدثاً عن روايته الوحيدة التي كتبها حول تلك التجربة بعنوان «الطاحونة السوداء»، الصادرة عام 1984، ويضحك بخفر عندما يؤكد لزواره أنه لا يملك منها الآن أي نسخة، بل إنه كتبها دفعة واحدة وأصدرها دون أن يعيد قراءتها.

في السنوات الأخيرة، لم يعد بندر مهتماً بنشر ما يكتب، خصوصاً الأدب، كان يكتب ويكدس النصوص والقصائد ريثما يحين وقت إعادة النظر فيها، وانتقاء ما يصلح للنشر، لكن الموت عاجله قبل أن يجد لتلك الكتابات الوقت اللازم لإخراجها إلى النور. لم يكن ذلك يقلقه، ربما لأن «حياتنا الثقافية العربية ليست متوقّفة... بل تتقهقر إلى الخلف، وبسرعة» كما كان يراها، وربما لأن قلقه الأهم هو الحفاظ على «توازنه الداخلي»، فهذا ما لم يراهن عليه يوماً، لا سيما وقد هندسه ببراعة صائغ الذهب بخيوط من علاقات إنسانية متينة وصلها مع الآخرين، فكان ملاذهم وكانوا توازنه في «عالم معزول لأسباب تافهة»، حسب تعبيره.

رحل بندر عبد الحميد آخذاً بعضاً كثيراً من الذاكرة الثقافية في سوريا، مغلقاً الباب الثامن من أبواب دمشق الذي ولجه شاباً بدوياً غريباً وغداً أحد معالمها الأجمل.

ولد بندر عبد الحميد في الحسكة عام 1947. تلقى تعليمه في الحسكة، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة العربية، عمل في الصحافة. عضو جمعية الشعر.

من مؤلفاته:

1- «كالغزالة كصوت الماء والريح» - شعر - دمشق 1975.

2- «إعلانات الموت والحرية» - شعر - دمشق 1978.

3- «احتفالات» - شعر - دمشق 1979.

4- «كانت طويلة في المساء» - شعر - دمشق 1980.

5- «مغامرات الأصابع والعيون» - شعر - دمشق 1981.

6- «الطاحونة السوداء» - رواية - دمشق 1984.

7- «الضحك والكارثة» - شعر - لندن - 1994.