وكالات..

كيوبوست: 120 عاماً من الصراع في اليمن (5-10)

صورة قديمة لصنعاء، اليمن- أرشيف

فرنسا

نجح صلح حضرموت المعروف بـ “سلام إنجرامز”، في تخفيف المناوشات بين مئات القبائل بعضها مع بعض، ومع الحكومة المركزية. استمر الصلح من عام 1937 إلى 1940، وهو يُنسب إلى الدبلوماسي البريطاني هارولد انجرامز، الذي بذل جهداً كبيراً في التفاوض من أجله، مستفيداً من دعم حكومته والحكومة القعيطية والكثيرية، ووساطة بعض الشخصيات المؤثرة في حضرموت، جنوب شرق اليمن. حقق الصلح قدراً من الاستقرار الذي شجع على عقد هدنةٍ أخرى لعشر سنوات؛ مما ضاعف إيرادات الدولة أضعافاً بسبب دوام التجارة[1].

كان ضعف قوات الحكومة المركزية في حضرموت أحد أبرز أسباب عدم الاستقرار نظراً لعدم كفايتها للتعامل مع المشاغبات القبلية؛ للتغلب على هذه المعضلة الجوهرية أسس إنجرامز جيش البادية الحضرمي أواخر العام 1939م[2]. تكون جيش البادية الحضرمي من أفراد القبائل ودُربوا على التعامل مع القبليين، من خلال القيام بمهام الجندية والشرطة والتحكيم في النزاعات. بدأ الجيش كقوة صغيرة، لكن كان يُتطلع إلى أن يكون جيشاً قوياً بما يكفي لضمان صمود هدنة العشر سنوات[3].


لكن حضرموت سرعان ما واجهت أحد أسوأ الكوارث الطبيعية؛ حيث أدى الجفاف إلى مجاعة في العام 1943م، وزاد من سوء الأحوال تعطل حركة الملاحة بسبب الحرب العالمية الثانية، مما أدّى إلى صعوبة استيراد الغذاء، ونقص الأموال الواردة من المهاجرين الحضارم في الخارج إلى أقاربهم في حضرموت. تضافرت جهود التجار الحضارمة والدولة القعيطية والكثيرية لتقديم العون للآلاف، كما قامت بريطانيا بتوزيع المساعدات بواسطة جيش البادية الحضرمي، والقوات الجوية البريطانية الملكية.


تسببت مجاعة حضرموت في مقتل أكثر من 15 ألف إنسان[4]، وهلاك الكثير من الأراضي الزراعية والماشية، وانتشار الأوبئة. كانت هذه الكارثة الطبيعية أحد أبرز الأسباب التي دفعت الحضارمة للهجرة إلى دول الخليج العربي. خلال عقودٍ قليلة، تمكن الكثير من أبناء حضرموت من بناء إمبراطوريات تجارية كبيرة، وجذبَ السوق الخليجي أعدادٌ هائلة من الحضارمة، وأصبحت تحويلاتهم إلى حضرموت أحد ركائز الاقتصاد الأساسية في وطنهم الأم، وبالتالي أحد ركائز الاستقرار أيضاً.


تمردات وثورات

خلال عقد العشرينيات، قام أحد الزعماء الأثرياء من عائلة ابن عبدات، في حضرموت باحتلال منطقة (الغرفة). كانت عائلة ابن عبدات من العائلات الحضرمية التي حققت ثراء كبيراً في إندونيسيا وسنغافورا، وكان لدى العائلة طموح توسعي في حضرموت؛ فتحالفوا مع بعض القبائل، والشخصيات النافذة في حضرموت، لتحقيق ذلك الهدف.


طائرة سلاح الجو الملكي البريطاني في حضرموت سنة 1937م وحولها عدد من رجال القبائل- من كتاب «إحلال السلام في حضرموت»
وبالرغم من أن ابن عبدات وقّع على عقد الصلح في حضرموت كبقية القبائل، فإنه استمر في إثارة القلاقل؛ فأرسلت إليه بريطانيا -بطلبٍ من حكومة حضرموت- حملة عسكرية في العام 1945م بقيادة أحد الضباط الإنجليز، ومساعدة كبيرة من الحكومة القعيطية، وتمكنت الحملة من هزيمة ابن عبدات، ونفيه إلى إندونيسيا.

الأوضاع السياسية في شمال اليمن كانت أكثر اضطراباً خلال عقد الأربعينيات؛ حيث بدأت جماعة من النخبة والمثقفين بالمناداة بنظام حكم ملكي برلماني دستوري، والعمل بمبدأ الشورى وإصلاح النظام الإداري والقضاء، على ما فيه من فساد ورشوة ومحسوبية وجور، والأخذ بأسباب المدنية والتحديث.


وفي سبيل تلك الدعوة تضافر مجموعة من الأشخاص، بينهم ممن درس في الخارج، لإنشاءِ ما عرف بـ “حزب الأحرار اليمنيين” في العام 1944، والذين هاجروا إلى مستعمرة عدن البريطانية لمزاولة نشاطهم، والاستفادة من حرية الصحافة هناك. لم يصمد الحزب طويلاً، لكن سرعان ما قامت على أنقاضه الجمعية اليمانية الكبرى كحزبٍ معارض سنة 1946، وأخيراً اندلعت ثورة 1948م التي قُتل خلالها الإمام يحيى بن حميد الدين، وأنهت حكمه.


كانت المجاعة التي ضربت شمال اليمن، كما ضربت حضرموت، أحد الأسباب التي دفعت الناس إلى معارضة الإمام الزيدي، بالاضافة إلى تراكمات الفساد والاستبداد. وُلدت طموحات المعارضين، وتعزَّزت بما شاهدوه في الدول التي هاجروا إليها من أجل التعليم، مصر والعراق بشكل خاص، وبما يروه في عدن من تقدّم وحرية ورخاء. تحصَّل المعارضون على دعمٍ من المهاجرين اليمنيين المقيمين في الخارج، بما في ذلك عدن، والذين كان بعضهم قد فرّ من الأوضاع المزرية في شمال اليمن.

وبالرغم من جهود المعارضين والمنادين بالإصلاح، فإنها لم تكن منظمة أو فعَّالة بما يكفي لإحداث ثورة، الأمر الذي سمح وشجع دخول طرف ثالث في خط الأزمة، وهو الإخوان المسلمين. تمكن الإخوان من الحصول على صورة كاملة عن اليمن الشمالي من خلال مدرسين مصريين يتبعون الجماعة، كانوا مُنتدبين في عدن[5]، كما تمكن الطلاب اليمنيون في مصر من الالتقاء بزعماء وأعضاء الجماعة في القاهرة، خلال دراستهم هناك.

وعن دور الإخوان المسلمين في ثورة 1948م يقول أحد مؤسسي حزب الأحرار اليمنيين، محمد بن أحمد الشامي، أن ثورة الدستور سنة 1948م من صنع الورتلاني[6]، وهو جزائري من زعماء الإخوان المسلمين، وأحد المقربين من حسن البنا، مؤسس الجماعة ومرشدها الأول.


يقول الشامي في كتابه «رياح التغيير في اليمن»: “فلما جاء السيد الفضيل الورتلاني، عمل ما لم يعمله أحد من اليمنيين؛ فوحّد شتات المعارضة في الداخل والخارج”. وضع كلٌ من الورتلاني والبنا الخطوط العريضة لـ “الميثاق الوطني المقدس” الذي ينظم طريقة الحكم، وصلاحيات الإمام البديل، وكان الورتلاني والبنا يوقنون أن اليمن “لا تزال أفضل من غيرها من البلدان العربية، ويمكن أن تكون منطلقا لدعوة إسلامية صادقة صحيحة، وذلك بإنشاء دولة تحكم بما أنزل الله”[7].

ويقول محمد علي الأسودي في كتابه «حركة الأحرار اليمنيين» أن الورتلاني “اشترك بالتخطيط، وبكل شيء يمسُّ القضية أولاً في صنعاء، ثم توجه إلى عدن”[8].


لكن ثورة الدستور أو ثورة 1948م أُخمدت خلال أقل من شهر، وتم عزل الإمام الدستوري الذي نُصّب على إثرها؛ وذلك من خلال ثورة مضادة قادها نجل الإمام يحيى، أحمد بن يحيى، بدعم من بعض القبائل. عودة الحكم إلى بيت حميد الدين أدى إلى  حملة اعتقالاتٍ واعدامات لقادة الثورة والمشاركين فيها، وكان بينهم الكثير من أصدقاء الإمام وخاصته من المثقفين، أما الورتلاني فقد تمكن من الخروج من البلاد.


كشفت الكوارث الطبيعية، والأزمة الاقتصادية الحادة، وتحويلات المغتربين خلال الأربعينيات، عن التأثير الكبير لكل ذلك في استقرار البلاد، لكن العامل الأكبر للصراع خلال عقد الأربعينيات كان الفساد والاضطهاد الذي قاد إلى ثورة 1948م في شمال اليمن.

لطالما كان الفساد عدو التنمية والحكم الرشيد، ولطالما أدى عدم تقاسم السلطة وعدم سيادة القانون إلى التعسف والسخط، وهو ما يمكن أن يكون دافعاً بريئاً للمظلومين أو ذريعة للطامحين. وبالرغم من أن ثورة 1948 كانت تهدف للقضاء على كل ذلك، إلا أن ظروف نشأتها وتطورها حتى موتها كان مقدمةً لسلسلة أخرى من الصراعات خلال العقود اللاحقة.

[1] «إحلال السلام في حضرموت»، عبدالعزيز القعيطي. ص80.

[2] «عدن التاريخ والحضارة»، علي ناصر محمد. ص323.

[3] «أيامي في الجزيرة العربية: حضرموت وجنوب الجزيرة 1934-1944»، دورين إنجرامز. ص192

[4] «عهد السلطان صالح بن غالب القعيطي»، محمد باحمدان. ص135.

[5] «حركة الأحرار اليمنيين»، محمد علي الأسودي. ص59.

[6] «رياح التغيير في اليمن»، أحمد بن محمد الشامي. ص194.

[7] «رياح التغيير في اليمن»، أحمد بن محمد الشامي. ص 248.

[8] «حركة الأحرار اليمنيين»، محمد علي الأسودي. ص59.