تمركز جماعات تكفيرية في مالي وبوركينا فاسو يمنحها تفوقا
القاعدة يحاصر المدن بدول الساحل ويدشن ما بعد انقلاب النيجر
منح الانقلاب العسكري في النيجر مقاتلي تنظيم القاعدة المتمركزين في دول الجوار دفعة جديدة للتحرك في ظل الاضطرابات الأمنية لفرض سيطرتهم على مناطق شاسعة، مستلهمين نموذج طالبان لتحقيق تقدم سريع.
ألقى وزير الجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنور بحجر كبير في منطقة الساحل الأفريقي عندما أكد الأحد أن جماعات إرهابية تسيطر على مساحة شاسعة في مالي، وهي رسالة تعني أن النيجر قد تسير على الطريق نفسه إذا واصل قادة الانقلاب توقيف المسار الديمقراطي.
وتأتي أهمية هذا التصريح من التقارير التي رصدت قيام جماعات مسلحة في منطقة الساحل الأفريقي بتنفيذ مخططات خاصة بطبيعة المرحلة الحالية، على رأسها حصار المدن، تمهيدًا للهيمنة عليها. وهو ما يمكنها من استغلال تداعيات الانقلاب العسكري في النيجر لفرض أمر واقع جديد.
وأعلنت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة بدول الساحل الأفريقي الخميس عزمها على محاصرة مدينة تمبكتو التاريخية في شمال مالي، وفقًا لتسجيل صوتي لأحد قيادييها.
وتستغل الجماعة، التي سبق لها احتلال مدينة تمبكتو المهمة في شمال مالي عام 2012 ما أدى إلى تدخل فرنسا لطردها وإنهاء هيمنة الجماعات الجهادية، الفوضى التي ضربت المنطقة وتداعيات الانقلاب العسكري في النيجر لتكريس هيمنتها على مناطق نفوذها أملًا في تكرار سيناريو السيطرة الكاملة على المدن وإعلان قيام نموذج حكم ديني، في عودة إلى ما قبل تدخل فرنسا العسكري منذ حوالي عقد من الزمان.
وتتضافر الكثير من العوامل التي تجعل مختلف الجماعات الموالية لتنظيمي داعش والقاعدة في منطقة الساحل أكثر اندفاعًا وتحمّسا لإحكام السيطرة على المدن الكبرى في كل من مالي وبوركينا فاسو وتاليًا النيجر.
وتستلهم هذه الجماعات الأسلوب الذي اتبعته حركة طالبان الأفغانية للهيمنة السريعة على المدن من أجل ملء فراغ الانسحاب الفرنسي، كما فعلت طالبان عقب الانسحاب الأميركي، واحتلال مواقع القوات الحكومية، مُستغلة الارتباك الأمني جراء الاضطرابات السياسية التي عمّت المنطقة.
وتجد هذه الجماعات، خاصة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، أن سيناريو هيمنة طالبان على السلطة في أعقاب الانسحاب الأميركي بات أقرب إلى التحقق في دول الساحل، بدءا بمالي، سيرًا وراء طريقة استحواذ طالبان على القرى والمدن والأراضي بشكل منظم دون مقاومة من الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة وصولًا إلى دخولها العاصمة الأفغانية كابول.
وكما استغلت طالبان فقدان الحكومة الأفغانية السابقة الدعم العسكري الغربي والأميركي على الأرض يطمع فرعا داعش والقاعدة بدول الساحل في استغلال توقف الدعم الغربي للحكومات المحلية، حيث لا يحظى الحكم العسكري البديل بأي رعاية غربية، ويفتقر إلى الدعم الأفريقي.
ويرتبط الانتقال إلى مرحلة الهيمنة على المدن الهامة والإستراتيجية من قبل الجماعات المتمردة المسلحة في دول الساحل بالتطورات في النيجر، حيث تكرس فقدان الدعم الغربي الذي صنع الفارق في الماضي للسلطات المحلية، علاوة على حرص الجماعات المختلفة على حيازة قصب السبق في تحقيق المكاسب الأكبر ميدانيًا وبسط الهيمنة على مساحات واسعة.
وتختلف إستراتيجية الهيمنة على الدول الحيوية عما اتبعه فرعا تنظيمي القاعدة وداعش بالساحل والصحراء من تكتيكات في السابق، حيث دأبا قبل ذلك على مهاجمة منطقة ما بهدف السرقة والاستيلاء على المؤن والسلاح، وإحداث بعض الضجيج الإعلامي دون تكبد خسائر كبيرة في الأرواح، والعودة سريعًا إلى أماكن اختبائهما.
وتكرر تطبيق هذا التكتيك في الغابات القريبة من قبل الجماعات الموالية لداعش والقاعدة، إذ توجد الزراعة والماشية والأماكن التي تسمح بالاختباء لأيام قليلة، ومن ثم العودة إلى مناطق تمركزها مجددًا. وتوفر الغابات للتنظيمين، خاصة في بوركينا فاسو والنيجر، ملاذات حيوية، وباتت غابة آرلي الممتدة في الدولتين ولها امتداد أيضا في بنين مركزًا لانطلاق هجماتهما على طريقة الكر والفر.
وبجانب الحرص سابقًا على التمركز في الغابات مع شن هجمات خاطفة على المدن دون السيطرة عليها، حرص فرعا التنظيمين على الحضور بشكل أكثر استمرارية في المناطق الغنية بالثروات كمناجم الذهب ومناطق مرور خطوط أنابيب النفط والغاز ومناطق مرور قوافل المواشي المنتشرة في أراضي وسط الساحل.
لذلك كسر تنظيم فرع داعش بالساحل هيمنة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة للقاعدة على مناطق مهمة في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو خلال المرحلة الماضية، لحرمانها من الانفراد بالعديد من المزايا المتعلقة بالقرب من الثروات والملاذات والمحاضن المناسبة للاختباء والتخفي عن الطائرات دون طيار والأقمار الصناعية.
وعلى الرغم من التوسع الذي أحرزه التنظيمان بدول الساحل العامين الأخيرين اعتمادًا على تكيفهما مع الظروف السائدة إلا أن تنافسهما والصراعات المسلحة بينهما حالا دون استنساخ النموذج الأفغاني بعد الانسحاب الأميركي وصولًا إلى الهيمنة على المدن الكبرى وعواصم الأقاليم.
وجعلت هذه الصراعات انتصارات التنظيمين رغم أهميتها دون مستوى الانتصار الكامل، ما يشي بأن طموح الإرهابيين في الساحل على الرغم من النجاح في السيطرة على بعض المدن المهمة هو أن يكونوا جزءًا من الحكومات أو في أفضل الأحوال الفوز بتشكيل الحكومة عبر مواصلة حرب الاستنزاف التي تجبر مختلف الأطراف على قبول جلوسهم في نهاية الأمر إلى طاولة المفاوضات.
وتُعد تمبكتو في شمال مالي إحدى أهم المدن المستهدفة للسيطرة عليها، ويتقاتل فرعا داعش والقاعدة في سبيل الظفر بها منذ أبريل الماضي. وبعد نجاح فرع داعش في الساحل بدخولها استفاد فرع القاعدة من شن الجيش ضربات جوية بمنطقة الشمال ومن محاصرة داعش من مختلف الجهات بمساعدة الأجهزة الأمنية ما اضطره إلى الانسحاب التكتيكي وترك المنطقة غير مأهولة لفترة طويلة.
ولم يتمكن داعش من استعادة المنطقة بعد خوض معارك دامية مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، مع توسعه لمسافة 50 كيلومترًا ناحة الغرب داخل بوركينا فاسو وتقدمه شمالًا على بعد حوالي 60 كيلومترًا داخل مالي إلى الأراضي التي يحتلها فرع القاعدة. وأصبحت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة تحاصر تمبكتو، كما تتمركز في جزء من مدينة تيدرميني التابعة لمحافظة ميناكا شمال شرق مالي قرب الحدود مع النيجر.
ويرد فرع القاعدة على مهاجمة مناطق سيطرته داخل مالي بالهجوم على مناطق سيطرة داعش في بوركينا فاسو، كما حدث في تانكوغونادي من ناحية الجنوب. ويُبدي داعش الاهتمام الأكبر بالسيطرة على المدن التي تقع على الحدود مع الجزائر وموريتانيا، مثل مدينة تامسنا وتنزاواتين، وكانتا ملاذا لزعيم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إياد أغ غالي.
ويهدف فرع داعش في منطقة الساحل من خلال هذا المخطط إلى تجاوز نفوذ القاعدة في شمال مالي والتوسع نحو الشمال الغربي الأفريقي، بغية اقتسام مراكز ومعاقل النفوذ والثروة مع فرع القاعدة. ويكرس فرع القاعدة في منطقة الساحل الأفريقي (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) نفوذه وحضوره في مالي وبوركينا فاسو متجهًا نحو مد النفوذ في البلدان الساحلية بهدف التمركز بالمناطق الحدودية.
ويستطيع التنظيمان في الساحل الأفريقي من خلال هذا التمركز الموسع في كل من مالي وبوركينا فاسو نقل ثقلهما إلى النيجر المجاورة عقب الانقلاب العسكري بشن هجمات دامية داخلها بهدف استنزافها إقتصاديًا ولوجستيًا، وتعميق المأزق الذي تعانيه السلطة العسكرية الحاكمة بسبب العقوبات التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) على قادة الانقلاب العسكري.
ويمنح التمركز بمدن حيوية والتحكم في طرق داخل مالي وبوركينا فاسو داعش والقاعدة قدرة على إحداث ضرر بالنيجر المجاورة بهدف استنزافها عن بعد أولًا تمهيدًا لبدء إستراتيجية التمركز والاستيلاء على المدن. وتستفيد الجماعات المتمردة المسلحة التابعة لداعش والقاعدة في منطقة الساحل الأفريقي من الاضطرابات السياسية والأمنية المستمرة واستبدال الحكومات المنتخبة بسلطات عسكرية، ما يؤدي إلى وقف الدعم الغربي ونشوب خلافات بين دول الساحل والصحراء ودول غرب أفريقيا، وهو ما يفضي إلى وقف التعاون العسكري والأمني.
وتفتقر الجغرافيا الممتدة التي تنشط فيها الجماعات المتطرفة المسلحة إلى التعاون بين الدول، وهو ما يضعف تصديها لأيّ عملية عسكرية ويقلل من مستويات استجابتها للتعامل الفعال مع الأخطار التي تمثلها نشاطات الإرهابيين العابرة للحدود. ومن المرجح أن يستمر تصعيد فرعي داعش والقاعدة بالساحل لهجماتهما الإرهابية في المنطقة، وتتواصل سياسة حصار المدن والهيمنة عليها، لكن من غير المرجح أن يحاولا السيطرة على العواصم في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، إذ يصعب على التنظيمين وسط خلافاتهما فرض السيطرة على الدول الثلاث وتأسيس نماذج لحكم ديني على طريقة طالبان.