وغاب رئيس الدبلوماسية منذ نحو شهر عن أنشطة ومحافل دبلوماسية، الأمر الذي فتح المجال أمام تأويلات حول خلفيات ودلالات احتجاب الرجل، والتي أعادت صراعات الأجنحة النافذة داخل السلطة إلى الواجهة، وأعلنت ضمنيا رحيل الدبلوماسي المخضرم عن الحكومة المنتظر الإعلان عنها قريبا من طرف الرئيس تبون، وترجيح كفة الأمين العام عمار بلاني لاستخلافه في المنصب.
وترددت معلومات في الآونة الأخيرة عن خلافات عميقة بين وزير الخارجية لعمامرة ورئيس الجمهورية حول التغييرات الهامة التي أجريت على سلك السفراء والقناصلة، والتي حملت بصمات بلاني المدعوم من طرف جناح الرئاسة، بينما أقصت الرجل الأول في الخارجية من الإدلاء برأيه في القائمة المذكورة.
ويرجح أن يكون لعمامرة أكبر المغادرين للحكومة في التعديل القادم والذي لمح إليه الرئيس تبون في تصريحه الأخير لوسائل إعلام بلاده، وما أشارت إليه قبله برقية وكالة الأنباء الرسمية حول ما سمّته بـ”العلاجات الملحة” من أجل إصلاح الوضع داخل الجهاز التنفيذي، بعد أن وجهت انتقادات غير معهودة لعدد من القطاعات والوزراء.
ويحسب الدبلوماسي المخضرم على جناح الدولة العميقة الممثل في جهاز الاستخبارات السابق، وكثيرا ما كانت علاقاته مع السلطة مرآة عاكسة لعلاقة مؤسستي الاستخبارات والرئاسة.
وكان لعمامرة وقودا لمعارك الطرفين في أكثر من مناسبة، حيث سبق للرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة أن استغنى عنه أو عمل على تقليص نفوذه بإسناد بعض المهام الدبلوماسية إلى رجال مقربين منه مثل عبدالقادر مساهل خلال صراعاته مع قيادات الجهاز المذكور، وها هو الآن يلقى نفس المصير، في ظل حديث عن خلافات بينه وبين الرئيس تبون تعود إلى الخلفية السياسية للطرفين.
ويبدو أن الرئيس تبون المدعوم من طرف قيادة أركان الجيش وعلى رأسها الرجل القوي فيها الجنرال سعيد شنقريحة، يتجه إلى تطهير الجهاز الحكومي الذي ورثه في ظروف استثنائية أملت عليه القبول بالأسماء والوجوه الوزارية التي فرضتها جماعات الضغط، بمن فيها وزراء ومسؤولون كبار ازدادت حولهم الشكوك في أداء دور مثبط لبرنامج الرجل من أجل إجهاض طموحه السياسي للمرور إلى ولاية رئاسية ثانية.
وحسب مصادر مقربة من دوائر القرار، فإن الأمر لم يحسم نهائيا في مسألة استخلاف لعمامرة ببلاني المعروف بمواقفه الراديكالية في الأزمة القائمة بين الجزائر والمغرب، فرغم الولاء الذي يبديه للسلطة الجديدة في البلاد، إلا أنه لا يحظى بالإجماع داخل دوائر القرار، وذلك أحد أسباب تأخر ما سمّته برقية وكالة الأنباء الرسمية بـ”العلاجات”، في إشارة إلى تعديل حكومي عميق.
وذهبت فرضية أخرى إلى أن الرئيس تبون عزل وزير خارجيته بهذا الشكل غداة توصله إلى معطيات حول استعداد جناح الدولة العميقة لطرح اسم لعمامرة كمرشح للسلطة في الانتخابات الرئاسية القادمة، وإجهاض طموحه في المرور إلى ولاية رئاسية ثانية لا تزال محل جدل داخل أروقة الأجنحة المتصارعة.
وسلط الإعلام المحلي منذ أسابيع أضواءه على الدبلوماسي بلاني الذي أخذ دورا غير مسبوق من خلال استقبال وإجراء مشاورات مع سفراء ودبلوماسيين أجانب، بينما يجري تجاهل وزير الخارجية، رغم تبنيه لخيارات وقرارات دبلوماسية يرى مقربون منه أنها بعيدة عن قناعاته الشخصية، وأنه كان ينفذ خلالها إرادة السلطة الفعلية في البلاد.
ويبقى وزير الخارجية المغضوب عليه واحدا من أعمدة الدبلوماسية الجزائرية في السنوات الأخيرة، فعلاوة على شغله لحقيبة الخارجية في فترات متقطعة، شغل أيضا مناصب دبلوماسية في الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة.
وسبق ترشيحه ليكون مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، فضلا عن كونه كان أحد أعضاء اللجنة التي شكلها الرئيس الراحل بوتفليقة قبل تنحيه عن السلطة، من أجل فتح حوار مع فعاليات الحراك الشعبي في 2019، كما كان خلال فترة المؤسسات الانتقالية مبعوثا لها لدى عدة عواصم غربية لطمأنتها حول الاحتجاجات الشعبية في بلاده.
ويبدو أن حركة التغيير الواسعة في الجهاز الدبلوماسي هي التي أخرجت الخلافات إلى السطح، فهي إلى جانب أنها تقررت في توقيت غير مناسب (منتصف الموسم الدراسي والاجتماعي) كرست سياسة الولاءات وتجاذب اللوبيات، إذ يكون لعمامرة قد فقد الوجوه والأسماء التي كان يعتمد عليها في إرساء موقعه داخل السلطة.